تخطي التنقل

لقد تم غلق باب الترشح في الدورة العاشرة.

إبراهيم خليل يكتب: النظرية النقدية العابرة للتخصصات

إبراهيم خليل يكتب: النظرية النقدية العابرة للتخصصات

يواصل النقد العربي، منذ فجر النهضة، طريقه نحو العثور على منهجية مثلى لدراسة النص الأدبي، وتحليله، وتقويمه، وتجسير الفجوة بين المبدع – شاعرا كان أم ناثرا- والقارئ.

فبعد النقد الإحيائي الذي تجسد في محاولات الشيخ حسين المرصفي (الوسيلة الأدبية) وبعد الثورة التي أحدثها النقد على أيدي جماعة الديوان: عبد الرحمن شكري، والعقاد، والمازني، وما دعا إليه ثلاثتهم من سعي لإيجاد قيم جمالية جديدة في الشعر خاصة، تفتح هذا النقد على مناهج نقدية غربية، أحدها النقد الرومانتيكي، الذي يرى في الإبداع الأدبي تعبيرا عن الذات أكثر منه تعبيرًا عن الواقع، والنقد الاجتماعي، أو السوسيو- تاريخي، الذي يرى في الإبداع الأدبي تعبيرا عن الذات من خلال تفاعلها بالواقع الاجتماعي، فالجمهور، في هذا النوع من النقد، يحتل المرتبة الأولى في أولويّات الناقد.

وقد تأثر بهذا المنهج كثيرون، منهم محمد مندور، وحسين مروة، ورئيف خوري.

فقد ألحوا في بعض ما كتبوه، ونشروه، على أن الأديب الجدير بالإعجاب هو الأديب الملتزم، الذي يكاد يُنكر ذاته في سبيل التعبير عن الآخرين. أما المنهج النفسي – وهو الذي يميل لقراءة الأدب قراءة أخرى تعتمد تحديد الأجواء النفسية التي تكتنفُ لحظة الإبداع لدى الشاعر، أو الناثر – فقد كان له حضوره، وله مريدوه، ممن حاولوا اكتناه المرتكزات الرئيسة لهذا المنهج، وتطبيق ما استوعبوه منه، فقرأوا بعض التراث العربي قراءة نفسية على النحو الذي نجده واضحًا في بعض مصنفات محمد النويهي، والعقاد، وعز الدين إسماعيل (الأسس النفسية…) وإحسان عباس (بدر شاكر السياب… ) وجورج طرابيشي، وآخرين.. وقد لوحظ نهجٌ آخر غلب على نقاد الشعر بصفة خاصة في خمسينات  القرن الماضي، وهو النهج الذي يغرف بسخاء من معين النقد الأنجلو- أميركي، الذي يُعرفُ اصْطلاحًا بالنقد الجديد New Criticism وتتبدى ملامح عدة، ووجوه متباينة من هذا النقد في دراسات جبرا إبراهيم جبرا، ويوسف الخال، ورشاد رشدي، ولويس عوض، وإحسان عباس، وبعض كتابات عز الدين إسماعيل. على أن النقد العربيّ، في تبعيَّته للآخر الغربي، سرعان ما فقد وعيه بكيانه الذاتي، وتخلى عن هويته لصالح المؤثرات التي هبت عليه هبوب الريح في البر والبحر.. وجاءت التيارات البنيوية والتفكيكية والسيميائية واللسانية، والتيار الثقافي، وما يوصف بتيار ما بعد الحداثة Post Modernism وما بعد الكولونيالية (أي ما بعد الاستعمار) لتجعل من نقدنا الأدبي نسخة مشوَّهة من النقد الغربي، تكتبُ بالعربية، لا بالإنجليزية، ولا بالفرنسية.

وأحسب أن هذا هو ما يحاول أن يؤكده جاسم عبد جاسم في كتابه القيم الصادر عن دار أزمنة للنشر بعمان (2016) في أقل من (150ص) من القطع المتوسط. ولا  تقاس قيمة الكتُب في اعتقادنا بأحْجامها؛ فربَّ كتيبٍ صغير الحجم أعظم نفعًا، وأكبر فائدة، من كتاب يقع في مجلدات، وهذا الحكم ينسحب على هذا الكتاب.

فالمؤلف، الذي يجمع بين كتابة الرواية، والقصة القصيرة، والنقد الأدبي، يلقي الضوء على التيارات النقدية التي غلبت على النقد الغربي تحت مُسمى نقد ما بعد الحداثة، وهو نقد يتميز، قبل كل شيء، بتعدد المناهج، والتخلي عن الفكرة القديمة التي طالما سلم بصحتها الجميع، وهي ضرورة أن يكون المنهج الذي يتبع في نقد ناقدٍ معين منهجًا واحدا. ذلك لأن نقاد ما بعد الحداثة وجدوا في أحادية المنهج قولبة متكررة تؤدي إلى احتكار الحقيقة، في حين أن التعدد يؤدي إلى نفي الحقيقة المُطلقة.

وقد مهد هذا النظرُ لأفقٍ نقديّ آخر هو النقد العابر للمنهجية، فبدلا من أن تكون النظرية وليدة منهج نقديّ معين، تغدو وليدة النفاذ إلى النصّ عبر أكثر من منهج، وبذلك تصبح القراءة العبر – منهجية جهدًا يرمي لإدراج كل ما لا تأخذه المناهج التقليدية المعروفة بالحسبان.. وهذا يؤدي لمزيد من النتائج الكاشفة عن الحقيقة الفنية، وفي مقدمتها تأكيده وحدة الإنسان، والعالم، والنص. وتبعًا لهذا، فإن نقد “ما بعد الحداثة” أو النقد العابر للمنهجية – فيما يؤكد جلال الخياط – نقدٌ يستوعب في قراءته للنص عدَدًا من المناهج في آن، بعيدا عن فكرة التلفيق، أو التوفيق، التي أطلق عليها بعضهم – نعيم اليافي- اسمًا آخر هو النقد التكامُلي. فالمؤلف – جاسم عبد جاسم – كغيره من نقاد ما بعد الحداثة يرى في النقد التكاملي (مرحلة تلفيقية) اجتازها النقد الأدبي العربي اجتيازه لمَخاضٍ عسير، وصعْب. فالتكامل المنهجي لا شك في أنه يقوم على الخلط بين منهجين، أو أكثر، وذلك مما يؤدي في رأي بعضهم- جابر عصفور- لتضارب في المفاهيم، وخلط في المقاييس.

وإلى هذا النسق الذي تطور عبره الخطاب النقدي العربي يضيفُ المؤلف سلسلة مقالات قصيرة ترصد بشيء غير قليل من طول النظر، وبعده، تحولات هذا الخطاب، ليصبح، بعد أنْ كان منهاجيًا، أو تكامليًا تلفيقيًا، خطابا عابرًا للثقافات. ولجلاء هذا النسق، يستعرض بعض دراسات مصطفى ناصف، وعبد الله الغذامي، ومحمد مفتاح، وإدوارد سعيد.

وأبرزُ ما يتجلى في محاولاتهم تجاوز حدود اللغة، واختراقهم لغات الآخر بمفهوم “انتقال النظرية” عند إدوارد سعيد. وهذه النظرية يخصها المؤلف بفِصلة عنوانها “النظرية النقدية عبر المنهاجية” وهو عنوان يعود الفضل في سبكه للأنثروبولوجي الفرنسي جان بياجيه، فهي نظرية تعتمد نزعة بنيوية جديدة أساسها تقويض المركزية الواحدة، باستخدام آليات المعرفة المتحولة، والاتجاه، بقوة، نحو تأسيس بنى متحركة بحيوية متجددة، مما يُقصي مفهوم النظرية التقليدي لصالح مفهوم جديد ينسجم مع الانفجار المعرفي الحالي انسجامًا يسمح بالتعدد الخلافي.

ومن النقاد الذين شُغفوا بهذا، وأشاروا له، ونبَّهوا عليه، صلاح فضل، وعبد الملك مرتاض، ومحمد مفتاح، وإن كانت المصطلحاتُ التي استعملوها ليست موحَّدة، ولا دقيقة، في الغالب، ولا تخلو من ملابسات تضلل القارئ. وقد تتبَّع المؤلف هذا اللبس المصطلحي تتبعًا يقظاً، واعيًا، مؤكدًا أن هذا الاضطراب شائع، ويكاد يكون عامًا، وقلما ينجو ناقد من الوقوع فيه.

ولعلَّ العودة بنا للعنوان “النظرية النقدية…” في ضوء ما انتهى إليه من نتائج، تشجّعنا على طرح السؤال القديم المتجدّد، وهو: إذا كانت النظرية النقدية الآن عابرة للتخصُّصات، أو عابرة للمناهج، أو الثقافات، مثلما تكرَّر في الكتاب، فأين هو موقعُ النص الأدبي منها؟ فقد كان السؤال الذي يؤرق المهتمين بالأدب، ونظريته، هو متى يستقلُّ الأدب بمفاهيمه، ومقاييسه، ومعاييرهُ عن التخصصات الأخرى، ليصبح علْمًا مستقلا عن غيره من العلوم: كالتاريخ، والفلسفة، والاجتماع، وعلم النفس، والأنثروبولوجيا، والسياسة، التي هي جزءٌ من إيديولجيا تتلوَّن بها ثقافة المجتمع؟ ومن يقرأ الكتاب بتدبُّر يتجاوز بقراءته السطور لما وراءها، يكتشفْ أنَّ المهتمين بالأدب تبوءُ مُحاولاتُهم- ها هنا-  بالفشل الفظيع، والإخفاق الذريع، لأنّ النظرية العابرة للتخصُّصات، أوالثقافات، نظريَّة تقوم على الإلمام بتخصُّصات متعددَة، وذات آليات ديناميكية غير ثابتة، وهذا قد يكون جيدًا، إلا أنه يظلُّ – في نهاية المطاف – تهميشاً للأدب لصالح التخصصات الأخرى، فبعد أن كان الناقدُ يتكئُ على تخصُّص واحدٍ، وحيد، أضحى بموجب هذا النقد يتكئ على تخصُّصاتٍ عدَّة، فما الجديدُ في هذا؟

مقال رأي للناقد وأكاديمي الأردني إبراهيم خليل نقلا عن صحيفة “الدستور” الأردنية


أضف تعليق