هناك كتب ما إن تنتهي من قراءتها حتى تجد نفسك قد لُذْتَ بنوع غريب من الصمت، وغبتَ عن واقعك إلى عالم فسيح تؤثثه العاطفة، والأفكار، وجموح الخيالات بمستوياتها الغرائبية، والسيكولوجية، وآثارها المدهشة. ورحت تتساءل، وأنت ما تزال تحت تأثير عالم ذلك الكتاب، عن موقفك مما قرأت؛ هل أنت معه فتتبناه، أم رافض له فتقف على الجهة المعاكسة لمراميه، أم لا تستطيع تحديد رؤيتك، وموقفك.
هذا ما حدث لي مع رواية «سيدات الحواس الخمس» للكاتب جلال برجس، الذي نال جائزة كتارا للرواية العربية (2015)، عن روايته «أفاعي النار/ حكاية العاشق علي بن محمود القصّاد»، وعدداً من الجوائز في الرواية والقصة.
منذ الصفحة الأولى تأخذك الرواية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، (بيروت، 2017)، بأسئلتها المهمة إلى عالم غرائبي، بني على فكرة مختلفة عما عهدناه في كثير من الروايات العربية؛ إذ برع برجس في ابتكار وتشييد بناء متميز لروايته، بمستويات فنية شاهقة وغير نمطية. هذا البناء الذي توافق حتى مع بناء قصر بطل الرواية «سراج عز الدين»، ومع «غاليري الحواس الخمس»، التحفة المعمارية الملفتة للنظر، والمدهشة إلى أبعد الحدود.
يقتحم برجس وبحس بوليسيّ إبداعيّ مشوّق، ووعي سيكولوجي، مكامنَ أخطر القضايا المجتمعية والسياسية التي تحدث في البلاد العربية، وبكل جرأة يطرح أسئلة تخص التحولات المختلفة التي أصابت المدن العربية سواء على مستوى شكلها الخارجي، أو على مستوى البشر أنفسهم، متخذاً من مدينة عمّان رمزاً للمدن العربية في المرحلة الزمنية التي تعاينها الرواية. وهذا في حد ذاته يمثل براعةً فنية وتمكناً. وهذا ما يجده القارئ في هذه الرواية التي جمع الكاتب فيها بين المتعة الفنية والفائدة الفكرية واللغوية.
جمع برجس ببراعة بين سحر اللغة ورشاقتها وعذوبتها وبين جموح الخيال وعنفوانه وغرائبيته، وبين الرؤية الجادة والواقعية الواعية لقضايا المجتمع وتحولاته، لنتلقف الرواية كوحدة إبداعية كاملة تعاين التحولات من أكثر من جهة.
ومن هذا المنطلق لا يمكن للقارئ أن يلجأ لفكرة بعينها ويقول إنها محور العمل، لأن الانتقاء هنا غالباً ما سيظلم فكرة ما، أو موضوعاً على حساب آخر، فالرواية مركبة، قضاياها كثيرة، ومتداخلة. ولكنها اتخذت منطلقاً تجلى في بناء العنوان «سيدات الحواس الخمس» الذي لا يعدّ هنا علامة إشهارية فحسب؛ إنما يمثل بؤرة أساسية ينطلق منها القارئ لتفسير دلالات النص، ويعود إليها كلما تقدّم في القراءة؛ إذ يدلف القارئ إلى دواخل النص محملاً بتوقعات عن النص نفسه، قد تصيب هذه التوقعات، وقد يتمكن الكاتب من كسر أفق توقعه. ولا شك أن هذا النص السردي من النصوص التي تكسر أفق توقع القارئ لآخر سطر من سطور الرواية، بل وتربكه.
يحمل العنوان موضوعين رئيسين؛ الأول هو «سيدات» والثاني هو «الحواس الخمس»، وهذان الموضوعان يمثلان نقطة ارتكاز للرواية؛ إذ تمثل المرأة عنده موضوعاً رئيساً، رمزاً للوطن بالحب الذي تحمله، وباحتمالات الخيانة، بكل مجازاتها، التي قد تصدر منها، وبالاخضرار حينما تعبّر عنه، وبالجدب الذي قد تتحول إليه؛ يقول السارد: «حواء وطن، والوطن قلب حواء الدافئ، فلا تسرقوا شموسه». فالمرأة وكيفية عيشها هي دلائل على حالة المدن وعلى حريتها. كما تشير الرواية إلى أن «النساء دلائل المدن على النمو، وعلى اخضرار روحها».
أما «الحواس الخمس» فهو موضوع قلّ التعامل معه روائياً، وهو يفتح أمامنا تساؤلات مختلفة حول أهمية الحواس فلسفياً وبيولوجياً، وحول كيفية تعاملنا معها. هل نعطيها حقها وننصت لها، لأنها قد تكون وسيلة اكتشافنا للحياة، وقد توصلنا هذه الحواس الخمس إلى الحاسة السادسة (الحدس)، أم نهملها ولا ننصت لها؟ وهل حواسنا خادعة وتوصلنا للحقائق، أم مضللة؟
هي تساؤلات مختلفة يدفعنا الكاتب إليها،كما يدفعنا أيضاً إلى الإنصات للمعطيات المختلفة للحياة والتي نتلمسها بواسطة الحواس؛ إذ تأتي الرواية لتنبه إلى أخطر مرحلة يمر بها الإنسان العربي هذه الأيام، وتحث القارئ على أهمية استثمار الحواس لفهم الواقع لاكتساب القدرة على استشراف المستقبل، الذي عليه أن يأتي بعيداً عما يمنى به عالمنا الآن من خراب.
ولكي لا نسير في جهة بعيدة عن مقصدية الكاتب نجده يقدم لنا العديد من الإشارات داخل النص السردي نفسه، يبدؤها بعتبة نصية عنونها بـ»ضوء»، وهي عبارة عن مقولة لأفلاطون يقول فيها: «العالم الذي نلمسه ونختبره من خلال الحواس هو عالم غير حقيقي، بل هو مستنسخ عن العالم الحقيقي». وفي مقطع سردي يشرح نظرية أفلاطون المسمّاة «عالم المثل»، والتي يعتقد عبرها أن العالم الذي نتلمسه ونختبره من خلال الحواس، هو عالم غير حقيقي؛ بل هو عالم مشابه أو مستنسخ من العالم الحقيقي. وفي هذا العالم تتغير الأشياء، تأتي وتذهب، تبرد وتسخن، لذلك هو «عالم الأخطاء الكثيرة».
الحواس ستة، وفصول هذه الرواية ستة، وفي قصر سراج عز الدين ست غرف مغلقة يحيط بها الغموض. وغاليري الحواس الخمس مكوّن من ست طبقات، كل طابق معني بحاسة ما، وبفلسفتها. ومع كل فصل من فصول الرواية هناك امرأة مرتبطة بحاسة من الحواس. ولكل امرأة قصة قد تشبه قصص نساء كثر في هذا العالم. ربما يراها القارئ ضحية لمجتمع مزقته أمور كثيرة أحدها تعامله مع المرأة ونظرته الدونية لها، وتكالبه على المرأة الضعيفة، وعلى الأرملة والمطلقة. مجتمع يفرض سيطرته ووصايته على المرأة بكل السبل الممكنة تحت أسباب ومبررات كثيرة. فهو لا يرى فيها سوى مآرب الجسد. وقد يراها الكثيرون تحولت من ضحية لظروف ما إلى مستسلمة وخاضعة فجانية.
لكن جلال برجس في روايته هذه تجاوز قشرة أزمة المرأة العربية، وذهب إلى عمقها حين ربطها بفكرة الوطن؛ الوطن الذي ربما يسلب، والمرأة الوطن التي ربما تسلب أيضاً، وما يمكن أن يجرّ علينا من نتائج جراء هاتين الفجيعتين. وهو في هذه الرواية يقترب من الفساد بكل أشكاله، الفساد الذي يراه خيانة وطنية، تماماً مثل الخيانة العاطفية التي يراها فساداً.
كل هؤلاء النسوة، شخصيات الرواية، مرتبطات بسراج عز الدين الفنان التشكيلي، وصاحب غاليري «الحواس الخمس»، هذا المبنى الفريد المشيد على هيئة امرأة، والمكون من ست طوابق، كل طابق يمثل حاسة من الحواس، أما الطابق السادس وهو رأس المرأة فيقبع فيه مكتب سراج عز الدين. وفي هذا إحالة تضاف إلى إحالات كثيرة مهمة يجب التفكر بها لنصل إلى ما أراد الكاتب قوله، وإلى ماذا رمز هذا الغاليري بتصميمه المدهش الغريب، والذي سيثير اهتمام القارئ لأبعد الحدود، حيث سيخرج القارئ من الرواية متمنياً وجود مثل هذا المبنى على أرض الواقع.
يقع هذا المبنى الفريد في هندسته وفكرته على قمة جبل «اللويبدة « أحد جبال عمّان السبعة، وتقابله مجموعة سليمان الطالع التجارية التي تتخذ من آخر طابق في إحدى بنايات «بوليفارد العبدلي»، حديثة النشوء، مقراً لها. ليمثل هذا الغاليري بشكله، ووظائفه، وترميزاته، أملاً وسراجاً للكثير من المحبين للفنون، وللقراءة، وللفكر، وللثقافة التي يمكنها بحسب رؤية الرواية إنقاذ ما تبقى لنا. يقف غاليري الحواس الخمس في مجابهة الظلام والمادية المتفشية في البلاد العربية والقابعة في أنظمتنا الحاكمة التي ترغب في المكاسب المادية والمنافع فقط بصرف النظر عمّن تدوس عليهم الأقدام. ذلك الظلام الذي ساهم في طغيانه العولمة وما بعدها، وتوحّش السوق العالمي ورموزه، الذين ما يزالوا يحاولون تشيئ الإنسان، وتحويله في أماكن كثيرة من العالم إلى كائن مستهلِك لا منتج. ولا يمثل «سليمان الطالع» بدلالة اسمه سوى رمز لهذه الفئة، فهو انتهازي متسلق يجمع الثروات، ولا يكتفي بما يجمعه، بل يرى اسمه على كل شيء في المدينة، ويشتهي كل ما يصعب عليه.كل ذلك رغبة منه في أن يحوز على مُلك سليمان.
يتجاوز سليمان الطالع حدود اللامعقول في توحشه، وغرابة رغباته، لكن في الرواية هنالك انتصارات يقف خلفها الأمل بالمستقبل الذي تراه الرواية نفسها، والمرهون بمدى قدرتنا على الحدس.
ثمة انتصارات للجانب المظلم في الرواية وللفساد، وعلى قدر كرهنا لهذا الأمر لكنه الواقع المرير الذي نعيش فيه، ومع ذلك يولد الأمل مع كل جيل جديد، ويولد بدلاً من سراج ألف سراج، وربما يكونون أكثر وعياً منه وتداركاً للأخطاء. ويرمز الكاتب لهذا الأمل بـ «أحمد»، الطفل شبيه سراج، هذه الشخصية التي حملها الكاتب بترميزات فنتازية عالية، لا ينفصل الخيط بينها وبين الواقعي، خاصة حينما نجده يردد: «الفكرة لا تموت بموت الأشخاص؛ الأفكار تحيا، وتتجاوز كل العصور».
وبطبيعة الحياة القائمة على الاختلاف، فقد لا تتفق مع الكاتب في كل ما عرضه من قضايا أو في طريقة تناوله لقضية ما، ولكن روعة الرواية ستجعلك تتجاوز نقطة الاختلاف إلى نقاط جوهرية تريد التحدث عنها. ففي الرواية الكثير مما يستحق المناقشة والتأمل. وهذا ما يميز الكتاب الجيد عن سواه؛ دفعنا للتساؤل والتأمل، ودفعنا أيضاً لأن نغير شيئاً ما في حياتنا. وما قررته بعد قراءتي لـ «سيدات الحواس الخمس»، هو أن أنصت لحواسي أكثر، ما يجعل الحاسة السادسة أكثر تنبهاً، رغم أنه من الضروري أن نضع في اعتبارنا أننا قد نصيب وقد نخطئ، فلنتعلم الإنصات!
مقال رأي للدكتورة أسماء شنقار نقلا عن صحيفة الرأي الأردنية