ارتبط الإشعاع العالمي للإبداع العربي في العقود الخمسة الأخيرة بعدد من الرموز الأدبية التي انطلقت من بيئات ثقافية وسياسية متنوعة وكتبت بأساليب ولغات عدة فتردد صدى أعمالها داخل العالم العربي وخارجه.
وقد تباينت الظروف والسياقات التي جعلت بعض وجوه الإبداع تحقق شهرة واسعة خارج بيئتها الأصلية، فبعضهم كانت طريقهم إلى العالمية عبر التتويج بجوائز ذات اعتبار عالمي، وآخرون تألقوا خارج الحدود لأنهم اختاروا الكتابة بلغة الآخر وتميزوا في ذلك.
وهناك من حظيت أعمالهم باهتمام كبير بالنظر إلى تناولهم لمواضيع اجتماعية وثقافية وقضايا إنسانية لا تعترف بحدود الجغرافيا لكنها تلامس التوق البشري الطبيعي للحرية والكرامة ونبذ الظلم والقهر والاستعمار.
عندما صدرت في فرنسا عام 1987 ترجمة الجزء الثاني من الثلاثية الشهيرة للكاتب المصري نجيب محفوظ (1911-2006)، “بين القصرين” و”قصر الشوق” و”السكرية”، اختار الناشر أن يغري القارئ الفرنسي بوضع شريط أحمر كتب عليه: فلوبير المصري، وذلك في إحالة للكاتب الفرنسي الشهر غوستاف فلوبير (1821-1880).
في تلك السنوات من ثمانينيات القرن الماضي بدأ نجيب محفوظ يطل على قراء لغة موليير بعد أن ظل نجمه لعقود ساطعا في العالم العربي فقط بأعمال سردية تعكس جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية بمصر في شخوص من مختلف فئات المجتمع، ما جعل كتاباته تتجاوز البعد المحلي لتكتسي طابعا كونيا.
وحصل الاعتراف بالبعد الإنساني في روايات نجيب محفوظ عندما منحته الأكاديمية الملكية السويدية جائزة نوبل للآداب عام 1988 فازداد إشعاعه عالميا، وبدأت كبريات دور النشر في مختلف أنحاء العالم تهتم بترجمة الكثير من أعمال الروائية. وفي أحدث خطوة في ذلك الباب ترجم البروفيسور الياباني هاناوا هاروو ثلاثية نجيب محفوظ، وفاز ذلك العمل بجائزة الشيخ زايد-فئة الترجمة عام 2015.
وتكريما لذكرى الكاتب العربي الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل أنشأت الجامعة الأميركية في القاهرة عام 1996 جائزة للرواية العربية باسم نجيب محفوظ، واختارت أن يكون موعد تسليمها في 11 ديسمبر/كانون الأول الذي يوافق ذكرى ميلاد الكاتب. وتفتح تلك الجائزة للفائزين بها بابا حقيقيا نحو العالمية إذ تترجم الجهة المشرفة عليها الروايات الفائزة إلى لغة شكسبير.
ارتبط اسم الكاتب السوداني الطيب صالح (1929-2009) في وجدان القارئ العربي برواية “موسم الهجرة إلى الشمال”، التي نشرت في البداية في مجلة “حوار” عام 1966 قبل أن تجمع في كتاب عن دار العودة في بيروت.
حظيت تلك الرواية لعقود باهتمام الناشرين والنقاد والقراء في العالم العربي وخارجه، بالنظر إلى طبيعة موضوعها (العلاقة بين الشرق والغرب) وإلى الشحنات الرمزية التي تجسدها الشخصية المركزية في الرواية مصطفى سعيد أول طالب سوداني مبتعث إلى بريطانيا.
ترجمت تلك الرواية إلى أكثر من 20 لغة، وكان لها دور كبير في تزايد الاهتمام الدولي بالأدب والثقافة في السودان وسائر أنحاء العالم العربي. بعدها كتب روايات أخرى، منها “ضو البيت” و”عرس الزين” و”مريود” و”دومة ود حامد” و”منسى” و”بندر شاه”.
إلى جانب الإبداع الأدبي يمكن القول إن الطيب صالح حقق العالمية أيضا من بوابة الإعلام، إذ اشتغل لعدة سنوات في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، وترقى فيها حتى بلغ منصب مدير قسم الدراما، كما عمل في عدة مواقع بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.
لقب الطيب صالح بعبقري الرواية العربية، وتكريما لمكانته عربيا ودوليا أطلقت عام 2010 جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي، في الذكرى السنوية الأولى لوفاته.
مكن وصف الكاتب المغربي الطاهر بنجلون (فاس/1944) بأنه عربي الغونكور (أعرق وأرقي جائزة أدبية في فرنسا)، وذلك لاعتبارين أساسيين، أحدهما أن الرجل هو أول كاتب عربي يتوج بتلك الجائزة، وثانيهما أنه أصبح ضمن الأعضاء المحكمين بالأكاديمية التي تمنحها.
قبل فوزه بتلك الجائزة عام 1987 عن رواية “ليلة القدر”، كانت كتابات الطاهر بنجلون، وكلها باللغة الفرنسية، محصورة في نطاق بعض البلدان الفرنكوفونية، لكن تتويجه بالغونكور فتح أمامه أبوابا واسعة نحو مزيد من الإشعاع، خاصة في العالم العربي، إذ ترجمت معظم رواياته إلى لغة الضاد.
وتختلف الآراء والتفسيرات في سر تألق الطاهر بنجلون، إذ ينتقده كثيرون ويرون فيه ذلك “المنبطح للغرب” الذي يكتب وفق هوى القارئ الغربي ونظرته الغرائبية إلى المجتمعات العربية والإسلامية.
لكن آخرين يعزون تميزه إلى اختياره الكتابة بلغة “الآخر” وتمكنه من أدوات الكتابة الأدبية وعلى رأسها القدرة على السرد والحكي بلغة بسيطة تصل إلى مدارك فئات واسعة من القراء، وهو بذلك وفي للموروث السردي العربي المتمثل أساسا في “المقامات” وفي تراث “ألف ليلة وليلة”.
على خطى الطاهر بنجلون، فاز الكاتب اللبناني أمين معلوف (بيروت 1949) بجائزة غونكور عام 1993 عن رواية “صخرة طانيوس” التي استقى مادتها من تاريخ لبنان وتحديدا في حقبة المد الاستعماري وصراع عدد من القوى الأجنبية لبسط السيطرة على لبنان.
ويمكن القول إن رحلة معلوف نحو العالمية بدأت عندما دفعته الحرب الأهلية في بلده للهجرة إلى فرنسا عام 1976 حيث واصل تجربته الإعلامية واشتغل في أسبوعية “جون أفريك” قبل أن يقرر في مطلع الثمانينيات ترك الصحافة والتفرغ كليا للأدب.
يمتح معلوف المادة الخام لأعماله ويستقيها من مرجعياته المشرقية واهتمامه بقضايا الحوار بين المعتقدات والأديان والثقافات. كما تحتل قضايا المنفى والهوية حيزا كبيرا في مؤلفاته التي تتميز بتعمقها في التاريخ، وحظيت لذلك باهتمام دولي كبير خاصة كتابي “الهويات القاتلة” (1998) و”اختلال العالم” (2004).
وتواصل إشعاع معلوف وفاز بعدة جوائز ثقافية عربية ودولية، من أبرزها جائزة أمير أستورياس للآداب (توصف بأنها جائزة نوبل الإسبانية) التي نالها اعترافا بقيمة أعماله الأدبية المترجمة إلى أكثر من عشرين لغة.
ومن باب العالمية دخل معلوف إلى مجمع “الخالدين”، وهو التوصيف الذي يطلق على أعضاء الأكاديمية الفرنسية، وهي مؤسسة ثقافية فرنسية عريقة تأسست عام 1625، وتعنى بشؤون اللغة الفرنسية وإشعاعها.
وقد انتخب معلوف لعضوية تلك المؤسسة الثقافية عام 2011 وخلف في الكرسي 29 (من أصل 40 كرسيا) الأنثروبولوجي الفرنسي الشهير كلود ليفي ستراوس، وأصبح معلوف بذلك ثاني عربي يذوق طعم الخلود الأدبي بعد الكاتبة الجزائرية الراحلة آسيا جبار التي حظيت بذلك التكريم عام 2005.
المصدر: الجزيرة. نت