تخطي التنقل

لقد تم فتح باب الترشح للدورة الحادية عشرة.

عبد الرحيم جيران يكتب: تّأويل الرواية

عبد الرحيم جيران يكتب: تّأويل الرواية

كيف يمكن تأويل الرواية؟ هل نتصرّف في هذا الأمر مثلما نفعل في صدد أجناس الخطاب المُختلفة؟ تُواجهنا – هنا – إشكالية وحدة آليات التأويل وصلاحية تعميمها بغضّ النظر عن الموضوعات، على الرغم من اختلافها، كما تُطرح نوعية الحاجة إليه، ومتى تصير ملحّة.

نحن – إذن – أمام ثلاثة اختيارات: أ- افتراض إجراءات عامّة؛ ومن ثمّة يصير تأويل الرواية مُلزَمًا بالخضوع لها، وفي هذه الحالة تحدث التضحية بالتنوّع الذي يوجد في صلب التأويليات بما يُفيده من تناقض مع تجربة المُؤوِّل الخاصّة. ب – افتراض كون الرواية تتطلّب – بوصفها جنسًا أدبيًّا يتأسّس على تمثيل نوعيّ للعالم – جهازًا من الآليات التأويليّة الخاصّة بها، التي تضمن لها مُراعاة خصوصيتها التخييليّة، وكونها تنتمي إلى صنف الخطابات التي تُعَدُّ تأويلًا للعالم تستخدم وسائل فنّيّة تُعطيها فرادة في مهمّتها هذه؛ ومن ثمّة تصير التأويليات مُضطرّة إلى البحث عن آليات التأويل من داخل الجنس الأدبيّ، لا من جهاز من الإجراءات العامّة، خارجيّة كانت أم داخليّة. ج – العمل على التجديل بين الإجراءات العامّة المُطبَّقة على جميع الخطابات والإجراءات التي تُراعي الخصوصية الإجناسيّة للرواية، وفي هذه الحالة نكُون أمام موقف توفيقيّ، لكنّ ما يظلّ إشكالًا في هذا الصدد هو معرفة ما الذي يُمْكِن أن يكُون المُنطلق المُتحكِّم في هذا التفاعل، أهي الإجراءات العامّة أم الإجراءات الخاصّة المُتّصلة بالجنس الأدبيّ؟ نفضل هذا الاختيار الثالث، مع جعل الإجراءات الخاصّة مُنطلقًا تستجيب له الإجراءات العامّة. وسنتحدث في هذا المقال عن بعض الإجراءات الخاصّة من دون حصر نهائيّ لها؛ فالأمر لا يعدو كونه تفكيرًا أوّليًّا يحتاج إلى مزيد من التطوير.

تُعَدُّ الرواية فنًّا مُؤوِّلًا للعالم؛ أي أنّها تسعى إلى فهمه بوصفه خطابًا لا يتكوَّن من حروف، بل من أفعال تستهدف موضوعات ما؛ ومن ثمّة تكُون الحبكة إجراءً أوّليًّا في هذا الفهم. وتُطرح في هذا الجانب ثنائية الفكر والفعل. والمقصود بهذا أنّ الحبكة تُعَدُّ – بوصفها صياغة لصيرورة فعل ما – تجسيمًا مجازيًّا لسؤال مُجَرَّدٍ يكمن خلفها؛ أي أنّ الروائي شبيه بالفيلسوف في مُحاولة فهم العالم بوساطة إرجاعه إلى نسق فكريّ ما مُستنِدٍ إلى سؤال ما، لكنّه يختلف عنه في كونه لا يستخدم المقولات المُفسِّرة، بل مُجسِّمات زمانيّة تتمثَّل في نماذج من الأفعال المُركَّبة. ويكُون جهد التأويل مُنصبًّا على إعادة هذا التجسيم إلى أصله التجريديّ (سؤال الروائي الضمنيّ غير الظاهر). وقد يكُون هذا السؤال مُرتبطًا بما هو حفريّ (تأويل نفسيّ: إرجاع الفعل إلى علل نفسيّة)، وقد يكُون مُصاحبًا ماثلًا في مُعاناة التصوّر (التطلّعات – الرغبات) والفكر (اعتقادات – إيديولوجيات) من التحقّق، وقد يكُون بَعْديًّا ماثلًا في الحلم أو التنبّؤ بعالم آخر مُقترح (بول ريكور).

ليست مهمّة الرواية تفسير العالم، وهذا جانب يجعلها مُختلفة عن كلّ خطاب تأمّليّ، كما أنّها ليست مُساعدة لنا على العيش فيه كما يتصوّر تودوروف، بل هي معنية بمُراجعة الفهم العامّ لهذا العيش، ومن ثمّة مُراجعة الرؤية إلى العالم السائدة المُطمئنة إليه أو المُتصالحة معه؛ أي أنّها تطمح إلى أن يكُون العالم على غير ما هو عليه. وما أن نُقرِّر مثل هذا الفهم تصير الرواية معنية بتدمير تأويل مُستنِد إلى معارف واعتقادات وتصوّرات مُهيمِنة ووضع تأويلٍ آخر جنينيّ محلّه. ويصير التأويل الروائيّ بمُوجب هذا الإجراء التخييليّ منظورًا إليه من زاوية المسافة التي يتحقّق بفضلها التباعدُ تُجاه المُستقرّ والثابت في الحياة. ويُترجَم فنّيًّا هذا التأويلُ القائم على المسافة بوساطة تجسيم التوتّر بين التصوّر (التطلّع) الذي يُترجِم اشتغال تأويل العالم المُضادّ للتأويل السائد المُستند إلى مقولات سوسيو – ثقافية مهيمنة، والتحقّق (ما ينجم عن الفعل من نتائج غير مُرضية للذات).

لا يُقام التأويل في الرواية على ما أراد أن يقوله النصُّ، أو ما أراد أن يقوله الكاتب، أو ما يُفكِّر فيه القارئ (قصد النصّ – قصد الكاتب – قصد القارئ)، وإنّما على التوتّر بين هذه الإرادات والكتابة. والمقصود بهذا أنّ النصّ الروائيّ لا يُؤوِّل العالم، ولا يقبل التأويل، إلّا في إطار علاقته بنمط مُعيَّن من الكتابة الروائيّة. وهذه العلاقة صنفان: إمّا أنّ الروائي يتبنّى نمطًا في الكتابة مُهيمِنًا شائعًا يحظى بقبول قويّ من قِبَل القرّاء، وإمّا أنّه يُدمِّر النمط السائد، ويبني نمطه الخاصّ المُختلف. ويصير الشكل الكتابيّ ذا أهمّية في التأويل؛ إذ يتضمّن في بنيته التقويم الآتي: «على الأقلّ هذا الشكل أفضل من سابقيه في قول العالم وفهمه». وما ينبغي التنبّه إليه – في هذا الصدد – هو أنّ الصراع بين التأويلات في الرواية تامٌّ بين تأويل الأنماط الكتابيّة السابقة وتأويل النمط المُدمِّر الذي يبنيه الكاتب، والذي يظهر في المسافة التي يضعها تُجاه ما سبقه من أشكال كتابيّة روائيّة، وتأويل المُؤوِّل الذي يقوم على توظيف ذخيرته القرائيّة، وتنظيم ما يُؤوِّله من مقروء في نطاق نسق فكريّ نقديّ له خلفيته المعرفيّة الخاصّة. ويكُون فعل المُؤوِّل مصوغًا وفق هدف القبض على المسافة الجماليّة التي يُقيمها النصّ الروائيّ تُجاه الإرث الروائيّ، التي تتضمّن فهما ما للعالم بوساطة الشكل؛ ومن ثمّة يصير التأويل تامًّا في حضن الأدب أو المكتبة (نورثروب فراي – أندريه جيد)، والمقصود بهذا قراءة الرواية وتأويلها بوساطة الرواية نفسها (أي نصوصها عبر التاريخ) والنصوص الثقافيّة المُؤسِّسة (المُؤثِّرة في الفكر والمعرفة). ولا يُمْكِن التفكير في التأويل الروائيّ – في هذا النطاق – من دون التنبّه إلى أنّ الكتابة تُشكِّل عالمًا موسوعيًّا أيضًا؛ فهي تُعَدُّ بمثابة برنامج من التعليمات والمعايير المُتّبعة. وليس هذا البرنامج مُجرّد أوفاق جماليّة فحسب، بل يُعَدُّ – من جهة – تأويلًا مُعيَّنًا للكتابة أيضًا، وتأويلًا للعالم من جهة ثانية. ويُعَدُّ خرق أفق الانتظار – في هذا النطاق – خرقًا لتأويل مُتوقَّع للعالم من قِبَل القارئ.

لا يُعَدُّ الأدب عامّة – والرواية خاصّة – إلا تعبيرًا عن نقص العالم وعدم كفايته (إدانة الأدب). وينبغي النظر إلى هذا النقص من زاويتين مُتكاملتيْن: نقص مُتأتٍّ من جهة العالم الذي لا يُلبِّي حاجات الرغبة أو يُسعف الذات في تحقيقها، ونقص مُتأتٍّ من جهة الوسيلة المُعتمَدة في التعبير عن هذا النقص (الكتابة). ولا تتأتّى أهمّية التعبير الروائيّ من كونه يقول هذا النقص الثاني فحسب، بل أيضًا من سعيه إلى تأويله من طريق تجاوزه بوساطة توسّطات نصوص أخرى تُستجلب إلى حضن النصّ الروائيّ.

 مقال رأي للأديب المغربي عبد الرحيم جيران نقلا عن صحيفة “القدس العربي”


أضف تعليق