انهمكت الرواية العربية في العقود الأخيرة من القرن الماضي في التاريخ والانغماس في الذات، متوسّلة المشهديات الكبيرة أو التفاصيل الصغيرة. وسواء ذهبت في محاولاتها المخادعة بعيداً إلى الوراء أو عميقاً في الداخل، كانت تسعى لولوج الحاضر، واستشراف المستقبل كمأزق مضمر ومستعص.
قبل ذلك الوقت، لاح أمل في محاولة الانسجام مع العصر الأيديولوجي المهموم في تغيير العالم بالوسائل العسكرية والتسلل الثقافي، والكتب الحمراء، والعملاء بأنواعهم، فالأيديولوجيا لم تقتصر على دول الستار الحديدي.
حاولت الرواية، فبركة أبطال مناضلين لامبالين بالموت، أنقياء ثورياً، منظّرين، يمتلكون الحقيقة المطلقة، على معرفة بمسيرة التاريخ، والإيمان بحتمية النصر. لم تفلح هذه الرواية في إقناع الدول الناهضة حديثاً من ربقة الاستعمار في الانجذاب إلى الاشتراكية، ليس لأسباب أدبية، وإنما لأسباب براغماتية، كانت تبرّر للعسكر إنشاء دكتاتوريات تضارع دكتاتورية بلد الاشتراكية الأم. فانتهت مغامرة الرواية الأيديولوجية إلى فشل ذريع.
المحاولة الأخرى، كانت في رواية تمارس مغامراتها في التجريب، وكان تخبّطاً في استعارات غربية من زمان ومكان آخرين، مثقلة بتضخّم الذات وافتعال الإدهاش، مع أنها استعانت برموز أسطورية محلية وعالمية، ولغة مترهلة، وشعرية مائعة.
غابت عن الرواية التجربة المطلوبة والمغامرة المرجوّة، لغياب الأسئلة الضرورية، لماذا نكتب، ما جدوى الكتابة، ما معنى الكتابة في هذا الزمن؟ إلى أي حد تصلح الرواية أداة للتعبير عن الذات، وثقل الماضي واختناق الحاضر ومواجهة المستقبل؟
قد تكون الكتابة غواية أو رهبنة، مع الحقيقة أو ضدها، لكنها كتابة لا تتضاءل أمام المجاهيل، وإشكاليات الحياة وزيف الواقع، وتزوير القضايا وتشويهها. الرواية سواء كانت حادة النظر، أو كليلة البصر، تحاول جاهدة تبيّن طريقها، وربما آفاقها، وإدراك إن كانت تقاتل عن حق أو باطل، ليس كي تخسر أو تربح جولة، وإنما لأنها الأداة الوحيدة لأن نقول ما نعتقد أنه الحقيقة، أو الجمال، وربما الفن الخالص.
أحياناً تبلغ بنا الحماسة الادعاء بأن الرواية ليست فقط تشبه الحياة، بل هي الحياة نفسها، مختمرة ومكثفة، لا تطويل فيها ولا إملال. وأحياناً، توازي الموت في معركة بقاء لا بديل عنها. الأصح، أنها هذا كلّه وأكثر، تظهر في تعدديتها وتنوعها والاختلافات بينها، ليس هناك أنموذج واحد، إنها طليقة، تضرب في الواقع والضمير والعالم والتاريخ، وتتبادل العداء مع السلطة والمجتمع والرقابات بأنواعها. هذا للذين يضعون اشتراطات لرواية موحّدة، ما هي إلا قيود باطلة.
قد لا نشعر بالاطمئنان، من عدم توفر معيار صلب، لكن في الزئبقية جانب إيجابي، ربما ليقع في الظن أننا بلغنا حقيقة ما نحن في سبيله، أو سنبلغها، أو اقتربنا منها. بينما الحقيقة أننا سنمضي في المحاولة، بلا جدوى، ومن غير عزاء. هذا لئلا نرتكب يقيناً يفوق الأكاذيب. بالمختصر، الكتابة تجزي الروح أحياناً، وتجازيها غالباً، لهذا الكتابة ممتعة ومؤلمة وشاقة.
مقال رأي للكاتب فوّاز حداد نقلا عن صحيفة العربي الجديد