عاش الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ حياته موظفاً ملتزماً، واستطاع أن يعكس بصدق وموضوعية خصائص عالم الموظفين، الذي تضن معرفة خباياه على غير المنتمين إليه، حيث إن معرفة ذلك العالم، تمكن الروائي من رصد دقائقه والتجسيد الواقعي الأخاذ، موضوعياً وفنياً.
وهذا ما يرصده الكاتب المصري مصطفى بيومي في كتابه الجديد “الوظيفة والموظفون في عالم نجيب محفوظ” الصادر عن دار الهلال للنشر بالقاهرة.
ونلاحظ أن الأغلب الأعم من أبطال روايات نجيب محفوظ موظفون: أحمد عاكف في “خان الخليلي”، محجوب عبدالدائم في “القاهرة الجديدة”، حسين كامل في “بداية ونهاية”، كامل رؤبة لاظ في “السراب”، ياسين وكمال ورضوان وعبدالمنعم في “الثلاثية”، عيسى الدباغ في “السمان والخريف”، أنيس زكي في “ثرثرة فوق النيل”، سرحان البحيري في “ميرامار”، حامد برهان في “الباقي من الزمن ساعة”، إسماعيل قدري في “قشتمر”، عثمان بيومي في “حضرة المحترم”، وهي الرواية التي تصل إلى الذروة في تجسيدها غير المسبوق لنفسية الموظف وملامح عالم الموظفين في الواقع المصري.
فلا يكتفي نجيب محفوظ بالعرض “الواقعي” للوظيفة في مصر المعاصرة، بل إنه يعود إلى مكانة الوظيفة في مصر القديمة، وأهميتها في العصر الفرعوني.
ففي روايته “العائش في الحقيقة”، يقول الحكيم آي -أبو نفرتيتي- لإخناتون: “عندما يأمن الموظف من العقاب سيقع في الفساد ويسوم الفقراء سوء العذاب”.
وفي روايته الذاتية “المرايا”، يقدم الكاتب الكبير خمسا وخمسين شخصية تعبر عن كافة أوجه الحياة المصرية، منذ العشرينيات وحتى أواخر الستينيات. رجالا ونساء، مسلمين ومسيحيين، أطفالا وكهولا، يساريين ويمينيين، أساتذة للراوي وزملاء له وممثلين لأجيال تالية. منهم من يلعب دوراً مهماً مؤثراً في حياته، وبعضهم هامشيون لا تأثير لهم. تمتد صلة الراوي بفريق منهم ما يقرب من نصف قرن، وتنقطع العلاقة مبكراً مع فريق آخر.
هذه الشخصيات العديدة المتنوعة المتناقضة، التي تقدم في مجموعها صورة حية نابضة عن المجتمع المصري، تنتمي إلى مهن شتى، فمنهم الأستاذ الجامعي والمعلم وضابط الشرطة أو الجيش والطبيب والصحافي والكاتب والفنان والموظف والمحامي والطالب والقواد وتاجر المخدرات والسمسار والعاطل.
على الرغم من الصعوبة البالغة في تحديد نسبة واضحة لكل مهنة، لأن منهم من يمارس عدة مهن، أو ينتقل من مهنة إلى أخرى، فإن الموظفين يمثلون العدد الأكبر، بما يزيد على الربع، من الشخوص الذين تحفل بهم الرواية والروائي، الراوي نفسه يتحدث ويعلق من منطلق أنه موظف، يعاصر أجيالاً من الموظفين.
في “حضرة المحترم”، يرتفع عثمان بيومي، أبرز أبطال نجيب محفوظ من الموظفين، بالوظيفة الحكومية إلى ذروة غير معهودة، فهو يضفي عليها قداسة خاصة، ويحولها إلى مثل أعلى وطقس ديني.
الموظف المصري هو الأقدم في تاريخ الحضارة الإنسانية، وتكتسب المؤسسة الوظيفية قداسة تضفي على المنتسبين إليها مكانة متفردة.
الشخصية المصرية تعكس الطبيعة الجغرافية للمكان، والسمات التاريخية المميزة له، وفي هذا السياق لا يحفل المصريون بنموذج المحارب أو السياسي أو التاجر أو المغامر، فالبطولة كلها من نصيب الموظف، الذي يقترن عمله النمطي الروتيني بمفردات الاستقرار والأمان، وتجنب الانقلابات والقلاقل.
تتراوح مكانة الموظف في التاريخ الاجتماعي المصري، بين التربع على القمة والسقوط في هاوية القاع. وقد تراجع سحر الوظيفة مع تغير إيقاع الحياة وتبدل القيم والمفاهيم، فبعد أن كانت الوظيفة الحكومية أشبه بالفاكهة المحرمة في عالم الفقراء، وبعد أن كانت كلمة الموظف حلم كل أم لابنها، وطموح كل فتاة في زواجها، لم يعد للوظيفة من شأن يُذكر، وتدهورت مكانة الموظف، لأسباب اقتصادية في المقام الأول.
المصدر: جريدة العرب القطرية