لا شك أن نجيب محفوظ عبقرية أدبية بكل معانى الكلمة و هذا باعتراف إقليمى و عالمى فمنذ كتاباته الأولى وحتى حصوله على جائزة نوبل في الآداب لم تتوقف الأقلام و لا الشاشات و لا الإذاعات عن الحديث عنه و هو الكاتب الظاهرة و المثير للجدل و المحفز للدراسة و البحث و القراءة العميقة فمراحل نجيب محفوظ الأدبية انقسمت إلى أربع مراحل بدايتها مصر الفرعونية و من خلالها ناقش قضايا كثيرة منها فكرة التوحيد و طبيعة الحكم والحاكم
و قد كانت روايات عبث الأقدار و كفاح طيبة من الروايات التى تدل على معرفة نجيب محفوظ بالتاريخ ومحاولة استخدام الرمز فى الإشارة إلى قضايا شائكة خاصة بالفكر الإنسانى و خاصة علاقة الحاكم بالرعية و طبيعة هذه العلاقة وأيضا تأثير المؤسسة الدينية على شكل الحكم و طبيعة فكرة التوحيدة كفكرة جديدة وثورية على مجتمع تعددت فيه الآلهة ولعل الاهتمام بالحضارة الفرعونية بعد ثورة 1919كتأكيد للهوية المصرية كان له تأثير كبير فى كتابة هذه الروايات و محاولة إلقاء الضوء على الجانب المشرق من تاريخ مصر القديم و لكن نجيب محفوظ ما لبث أن تخلى عن هذه الموضوعات التاريخية ليبدأ عالمه الواقعى فينشر روايات تهتم بتصوير المجتمع المصرى فى أنماط حياته المختلفة و خاصة بين الحربين العالميتين و أيضا صراع مصر من أجل الاستقلال من الاحتلال و الحماية الإنجليزية فمعظم روايات نجيب محفوظ فى هذه الفترة تناقش تأثير الاستعمار على أنماط الحياة فى مصر و أثر الأزمات الاقتصادية على سلوك البشر و مصائرهم ففى روايته الشهيرة بداية و نهاية تدفع نفيسة بنفسها فى عالم البغاء نظرا لسقوطها وفقرها بعدما مات أبوها فاضطرت للعمل كخياطة ثم احترفت البغاء لتساعد عائلتها فى الحياة و لكنها دفعت ثمن تضحيتها المغبونة بإلقاء نفسها منتحرة فى النهر ولم يرحمها أخوها الذى ضحت من أجله و هانت عليه لغروره و كبريائه وما حدث مع نفيسة حدث مع حميدة فى زقاق المدق فى عالم لا يمثل فيه الزقاق الطموح الذى ترغب فيه هذه الفتاة اليتيمة المتطلعة بروحها وجسدها وشهوتها فهى تحترف الرقص و مصاحبة الأجانب بعدما أغواها القواد لتعيش معه فى علاقة آثمة ثم بعد ذلك يستغلها جسديا و كان نجيب محفوظ يلقى الضوء بقلمه ووعيه على انتهاك النساء و استغلالهن جسديا تحت مسمى الحب أو العمل المهين فكانت رواية زقاق المدق هى الناقوس الذى دق أجراس الخطر لطبيعة المرأة عندما يجبرها الفقر على احتراف الرذيلة بمساعدة رجال أشقياء . هذه المرحلة بداية لأعمال أدبية تبحث فى شكل المجتمع و طبقاته و تأثير العامل الاقتصادى فى شكل العلاقات هذا إلى جانب تأمله لفكرة المصائر و تحديدها لحياة الإنسان . ثمة طبيعة أخرى لهذه المرحلة هى سوداوية رؤية الواقع لنجيب محفوظ لدرجة تصل للعدمية و المأساة الإغريقية فى شكلها الحديث ففى القاهرة 30 نرى كيف أن إحسان ارتضت أن تكون عشيقة لمدير زوجها لتعيش حياة كريمة ضاربة عرض الحائط بكل المثل و القيم التى تعلمتها من دروس الفلسفة فى مدرستها قبل أن تهجرها للزواج والمرأة فى روايات نجيب محفوظ معادل موضوعى للأوضاع المتدنية التى وصل لها حال البلاد.
ثم تجىء المرحلة الثالثة من أدب نجيب محفوظ وهو ما يسمى بأدب الواقعية الملحمية و هى روايات الثلاثية و الحرافيش وأولاد حارتنا.
ففى الثلاثية يحاول نجيب محفوظ أن يعكس من خلال رواياته الثلاث بين القصرين وقصر الشوق و السكرية الواقع و التاريخ و رصد تاريخ الحركات الوطنية و السياسية و ما صاحبها من الحركات الليبرالية الاجتماعية للمجتمع المصرى من بداية ثورة 1919 إلى نهاية الستينيات و المد الأصولى و قد استطاع أن يقدم بطريقة مفصلة أنماط الحياة فى مصر و شكل المعاملات اليومية و الصراعات النفسية و العاطفية لأبطاله و لعل الرواية فى حد ذاتها رواية نمو لشخصية كمال عبد الجواد الذى يعكس بطريقة أو بأخرى حياة نجيب محفوظ نفسه و تطوره الأدبى و الفلسفى ووعيه بقضايا المجتمع وتطوره و نكباته و إنجازاته. و كانت الثلاثية فى تاريخ الأدب العربى علامة مميزة فى تاريخ الأدب و أصبحت شخصية الأب المتمثل فى السيد أحمد عبد الجواد نموذجا مجسدا لشخصية الأب المتسلط و المزدوج الذى يتعامل بمعايير تسلطية و مخادعة فى تربية الأبناء و السلوك المنحرف تجاه شهواته و زوجاته ففى الداخل الأب الذى يحمل المعايير و القيم أما فى الخارج فهو شخصية متحررة لحد المجون.
و تأتى أولاد حارتنا و التى نشرتها الأهرام مسلسلة عام 1959 و التى أثارت الجدل و أدت إلى مظاهرات و اعتراض الأزهر على تمثيل شخصية الجبلاوى و التى اتهمها البعض أنها تمثيل للقوى الغيبية و فى تطرفها تمثيل للإله و لكن نجحت الرواية فى استمرارها برغم اعتراض الكثير على نشرها فى مصر فنشرت فى دار الآداب بلبنان و الرواية فى مجملها تحكى تاريخ البشرية متمثلا فى شخوص الحارة التى تنتمى إلى اللامكان و اللازمان و تسرد علاقة شخصيات مثل رفاعة وقاسم وعرفة و علاقتهم بالجبلاوى الجد و وراثة الوقف الموجود فى الحارة . هذه الرواية فتحت الطريق لكثير من المناهج النقدية و الأدبية فى مبحث علم الأدب المقارن و مقارنة الأديان و أنواع السرديات المختلفة . أزمة هذه الرواية أدت إلى خلق دوامة من القبول و الرفض لأدب محفوظ و شخصه من بعض المتشددين و أدت إلى محاولة فاشلة لاغتياله فى التسعينيات .استمر نجيب فى تكملة وعيه الملحمى بالواقع و الذى طوقه بروايته الحرافيش و التى تحكى تاريخ الفتوات فى منطقة مصر الفاطمية و التى تتبنى الأمثولة فى تمثيل عالم الفتوات و منطق القوة و الضعف فى عالم البشر و الذى فسره بعض النقاد أنه إسقاط على حكام مصر منذ بداية العصر الحديث و خاصة شخصية الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. أما فى عالمه السردى فقد استفاد نجيب محفوظ من التراث الفارسى فى الحكى و ألف ليلة وليلة و الشاعر الشفاهى . وفى هذه المرحلة الاجتماعية الأسطورية استطاع نجيب محفوظ إظهار الجانب المعرفى عالم الشرق و أساطيره و المذاهب العقائدية المختلفة.
أما المرحلة الأهم فى أدب نجيب محفوظ فهى المرحلة الرمزية الممتزجة بالصوفية ففى رواياته اللص والكلاب والطريق و الشحاذ وقلب الليل وميرامار عكس نجيب محفوظ رؤيته الفلسفية و رحلته فى البحث عن معنى حقيقى للوجود فى ظل سيطرة السلطة الغاشمة للإعلام أو الشرطة بشكلها القمعى فى حقبة الستينيات كما عانى منها سعيد مهران فى اللص و الكلاب أو البحث عن الوجود المطلق للإله متمثلا فى البحث عن الأب السيد الرحيمى كما فعل صابر فى رواية الطريق .
استطاع نجيب محفوظ من خلال لغته القوية و معرفته الكبيرة بالواقع و منطقه الفلسفى أن يؤسس أدبا عالميا يرتكز على اجتهاد كبير من مبدع كبير مثله يبين وعيه بمنطق الأشياء و قدرته على استخدام الحكمة اليومية فى إبداع حقيقى .أنهى محفوظ حياته بكتابة أصداء السيرة الذاتية و الأحلام و من خلالهما استطاع أن يعطينا شذرات من حياته فى لغة شاعرية وعمق فى تناول اليومى و العادى.
سيعيش نجيب محفوظ فى وجدان المصريين والغرب بل فى تراث الأدب العالمى لما بذله من إثراء التجربة الإنسانية بأدب راق وحكايات ستعيش طويلا فى وعى القارئ.
مقال رأي للكاتب المصري د. بهاء عبد المجيد نقلا عن جريدة الأهرام