تخطي التنقل

لقد تم فتح باب الترشح للدورة الحادية عشرة.

يوسف القعيد يلتجيء للمستضعفين والمسحوقين في رواية “الحرب في بر مصر”

يوسف القعيد يلتجيء للمستضعفين والمسحوقين في رواية “الحرب في بر مصر”

ليست قراءة رواية “الحرب في بر مصر” بسبب حصول الروائي العربي الكبير يوسف القعيد على جائزة العويس الشهيرة، فهو شهير ببصماته الروائية العربية المصرية المدهشة من قبل هذه الجائزة، وذلك لالتجائه للمسحوقين، وتصويره حال المستضعفين في الأرض، ولهذا فإن جمهوره العربي كبير.

طالما تشوقت لقراءة هذه الرواية، وبحثت عنها، إلى أن وجدتها في مكتبة دار الهلال، وعندما سافرت إلى الولايات المتحدة، قصدت أن أستغل وقت السفر الطويل بقراءتها. كانت مدهشة كما تصورتها. لم تترك لي وقتاً لأبتعد عنها. لم أشعر بالوقت. قطعت الاثنتي عشرة ساعة طيران في نصف ساعة.

وما فهمته من هذه الرواية أن الأغنياء يستطيعون شراء كل شيء من الفقراء، ليست أرضهم وما فيها من الجبنة والعسل والقشطة الفلاحية فقط محصورة للأغنياء، ولكن حتى أرواحهم، فهي معروضة للبيع.

لا أعرف إذا ما كانت مجموعتي الأقصوصية التي صدرت بعنوان “كل شيء للبيع” خاضعة لهذا المفهوم، مع اختلاف عالم الأقصوصات عن هذه الرواية المدهشة.

الأسلوب الدراماتيكي الذي يأخذك به القعيد في “دوكة” ويسرح بك بين العمدة الإقطاعي والفلاحين من جهة، وبين المزارع والغيطان والحرب والسلم من جهة أخرى، وذلك بأسلوب ساحر، لا يمكن تقليده.

هكذا يبدأ العمدة في التفكير، قائلاً لنفسه: “الأرض التي أخذوها منا سنة أربع وخمسين رجعت، وغداً يعود لنا كل ما فقدناه” وهو بهذا يشير إلى أن الإقطاع الذي قضى عليه نظام عبدالناصر، قد قضى على عبدالناصر، وأعاد الأراضي للإقطاعيين القدامى.

لاحظ الدراما هنا في حال العمدة المتحكم في كل شيء في القرية، ناسها وممتلكاتها والغادي والآيب، والفاعل والتارك، حينما يقول ص 6: “وأنا أتوضأ نزلتْ من الإبريق قطعة طين صغيرة، رأيتها في كفي..”.

وهنا يشعر القارىء بالخوف والحذر من هذا الذي نزل.. ثم يتابع العمدة قوله وهو يتوضأ ليصلي: “رفّت عيني الشمال.. تأكد لي أنه لا بد من حدوث أمر ما..” هنا ينقلك القعيد من خشوع الوضوء والصلاة، إلى القلق والخوف من حدوث أمر ما..!

ولكن العمدة المتزوج من أربع نساء إذ يقول “زوجتي الأخيرة..” ربنا منعم ومتفضل عليه في المال والنساء والعيال، تفاجأ بأنه قلق من العملية التي أجراها بقوله: “استئصال البروستات يعني بالنسبة لي فقدان رجولتي..”، وبذلك فهو خاضع لستر زوجته الصغيرة على كونه “لا ينفع”. المصيبة التي حلت على زوجته أنه يود لو أن يذهب ابنه إلى العسكرية، وهي تعارض ذهاب ابنها المدلل إلى لظى المعارك. تريده أن يفعل أي شيء لتجنيب دخول ابنها المدلل إلى أتون المعارك..إذ تقول له:

“من يرمي ابنه للقتل؟” ولكن العمدة يُحدِّث نفسه صامتاً: “كنت أود أن يذهب ابني إلى العسكرية، لكي يتعلم.. إلى متى يظل مدللاً؟” تجده يشعر في داخل نفسه أنه مواطن مصري يحب وطنه.. ولهذا فهو يحدث نفسه ص 12: “ألا يشعر المصري بالخجل والعار وهو يُهرِّب أولاده من ضريبة الدفاع عن الوطن؟ وأنا العمدة، المسؤول عن تجنيد كل أولاد الناس، فكيف أُهرب أولادي؟”.

ولكن الذي لا يقوم بواجبها الزوجي، يريد أن يستر نفسه معها، فيقول لنفسه: “أنا والحمد لله معي ملايين. وما دام القرش أصبح رب هذه الأيام، فلن أخاف من أية احتمالات. وقريباً سيجرون عملية جراحية للناس في بلدي، يستأصلون فيها القلوب، ويعلقون مكانها جنيهات ذهبية”.

ولكنه يتذكر أن والده كان يربط من يعصي أوامره من الفلاحين إلى شجرة الكافور. وأن أباه كان يقول إن الخلق في بر مصر نوعان، ولا بد من كنس لجنة الاتحاد الاشتراكي بضربة واحدة، وينجح في انتخابات مجلس الشعب، وفي ظل الوضع الجديد لن يذهب ابني إلى التجنيد.

ثم يستدرك فيقول: “ولكن الولد فاشل بكل المقاييس، ولم يحصل على الإعدادية، ولهذا فإن دخوله التجنيد صار واجباً..”.

ولكنه تحت ضغوطات الزوجة الصغيرة، وكونه لا يقوم بواجب زوجته بسبب عملية البروستات، عليه أن يتصرف لمنع ذهاب ابنه للتجنيد. لاحظ هنا أن القعيد يأخذك في طريق، ويعيدك من نفس الطريق، فالعمدة يفكر بالحق، ولكنه يتصرف بالباطل.

ولحل المشكلة، بحث عن رجل حلال مشاكل يسمونه في القرية وربما المحافظة، “المتعهد”. استطاع هذا المتعهد أن يحضر له طالباً في عمر ابنه ليدخل التجنيد بدلاً عن ابنه، وهو ابن خفير لديه، رغم أن هذا الطالب يا حرام هو دائماً الأول في المدرسة.

ومقابل هذا التفاني في كرم الخفير في تقديم ابنه غير المطلوب للتجنيد، وعد العمدةُ الخفيرَ أنه سيبقي له على قطعة الأرض التي كان الخفير قد أخذها من الدولة أيام التأميم، بصفته العامل هو وزوجته وأسرته في تلك الأرض منذ الأزل، وهو الأحق بفدانين يزرعهما ويعيش بهما، وها هي الآن ستسترجع للعمدة.

وهكذا يدخل الطالب المتفوق التجنيد الإجباري، بأوراق مزورة، بصفته ابن العمدة المزور، وذلك ليحمي قطعة أرض أبيه من إرجاعها للإقطاعيين الجدد. بينما يطلب المتعهد من ابن العمدة أن يختفي عن الأنظار بصفته مطلوباً في التجنيد.

الدراما والشد والتوتر تسكن قلوبنا نحن المطلعين على هذه الأحداث الجسام، لنرى الورطة التي وقع العمدة وابنه والمتعهد فيها في نهاية الرواية.

المقال للكاتب صبحي فحماوي عن ميدل ايست أونلاين


أضف تعليق