منذ سنوات، ثلاث أو أربع، كانت كتبت لي فتاة صغيرة من السودان كما أذكر، تتحدث عن حلمها بأن تنشئ مكتبات صغيرة تحتوي على كتب مجانية في الحدائق العامة، والطرق التي تضج بالناس، والحدائق والشواطئ، وكل أماكن التواجد الإنساني المكثف، بما في ذلك عيادات الأطباء، والدوائر الحكومية، بشرط أن تعامل تلك المكتبات برقي شديد، أي أن يتم تبادل، يضع فيه القارئ كتابا كان قرأه، ويأخذ كتابا، ليقرأه، ويضعه في مكان آخر، يزوره لاحقا، وتكون فيه هذه المكتبة موجودة.
أيضا شاهدت كثيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، صورا لمثل هذه المكتبات، تبدو ملتقطة في أوروبا، وكانت في معظمها خزائن صغيرة حمراء أو صفراء اللون، موزعة في أماكن عدة، منها الحدائق، ومواقف الحافلات، وكانت ممتلئة بالكتب، وثمة من يجلس مع أسرته في حديقة، أو ينتظر الحافلة، وبيده كتاب يقرأه، وبالطبع كان معظم من وضع تلك الصور، يتحسر على عدم وجود مثلها في بلادنا، وعلق كثيرون بأن هذا لن يحدث، وحتى لو حدث، فستضيع محتويات تلك المكتبات في ساعة واحدة، ولن يضع أحدا كتابا، وحقيقة لم أشاهد تلك الخزائن الصغيرة في أوروبا، على الأقل في البلاد التي زرتها، لكنني أؤمن كثيرا بوجودها.
لقد تذكرت رسالة الفتاة الصغيرة، وصور خزائن الكتب التي شاهدتها منذ زمن، حين كنت أمر في ممرات الحي الثقافي، كتارا، في الأسبوع الماضي، وعثرت في ممرات كتب عليها: رواق الكتب، على تلك الخزائن الصغيرة، وكانت حمراء اللون، موجودة هناك وفيها كتب جيدة، وقد كتب عليها: ضع كتابا وخذ كتابا.
كانت مفاجأة جميلة، أن ثمة فكرة بسيطة، وغير مكلفة أبدا، وفي الوقت نفسه، كبيرة وذات جدوى، قد طبقت في تلك المؤسسة التي تسعى دائما، لإيجاد تواصل ما، بين الثقافة والمجتمع، ولن تتوقف عند جائزة سنوية للرواية، تتكفل بها، ولا مهرجانات شعرية واجتماعية وتراثية، تتولى إيقادها باستمرار، أو جداريات تستدعي الفنانين الكبار لرسمها، وإنما كل ما يمكن تطبيقه سيطبق. كانت ثمة كتب مهمة في تلك الخزائن الصغيرة، كتب في المسرح والسياسة والاقتصاد والشريعة، وكتب أدبية أيضا، وكلها بحالة ممتازة جدا، ثمة من قرأها بلطف وأراد غيره أن يقرأها بلطف أيضا، وغالبا ما تكمل دورة قرائية وتعود لتبدأ دورة أخرى.
عثرت على كتاب لبول أوستر، وقصص لألبير كامو، وروايات عربية لعبد الرحمن منيف ونجيب محفوظ، وشكري المبخوت، وبالمصادفة عثرت على رواية عربية لأحد الشباب كنت أبحث عنها، واستعرتها فورا، ولأن الأمر فاجأني ولم أكن أحمل معي كتابا، فقد أخذت، ولم أضع، لكنني عدت بعد يوم آخر ووضعت كتبا عدة، مشاركة مني مع غيري بالطبع، في الحفاظ على نبض هذا المشروع الجيد، غير المكلف أبدا، سواء في فكرته أو تطبيقه، وأظن لو تقبل الناس الفكرة جيدا، وانتبه قراء حقيقيون لأهمية تلك الخزائن الصغيرة، وتمت تغذيتها باستمرار، ستتسع الفكرة كثيرا، لتشمل كل الأماكن التي ذكرتها الفتاة القارئة من قبل، وستستبدل تلك المجلات والصحف القديمة المستهلكة في عيادات الأطباء وصالونات الحلاقة، مثلا، بكتب حقيقية فيها متعة ومعرفة، فقد كانت فكرة قتل الملل بالقراءة، قديمة جدا كما يبدو بالنسبة لأماكن الانتظار التقليدية، لكن تطبيقها لم يكن صحيحا أبدا، إنها مجرد فكرة ترف أو تحلق في أماكن الانتظار تلك، من دون أن يمسك بها أحد بوعي، ويجلسها أو يحفظها داخل خزانة جيدة، وجاذبة، ومكتوب عليها: ضع كتابا وخذ آخر.
وأذكر أنني جلست مرة لمدة ساعتين في عيادة طبيب أسنان مزدحمة، أنتظر دوري للدخول إلى الطبيب، وأرى أمامي كثيرين، وقد تناولوا صحفا ومجلات من الطاولة أمامهم، يتصفحونها قطعا للملل، وأخذت بدوري مجلة، أتصفحها وعثرت فيها على أخبار غريبة، عن إحياء حفل لمغن، أعرف أنه مات منذ زمن طويل، عن لاعبي كرة، لم يعودوا موجودين حاليا، تحت أي مسمى رياضي، وخبر عن صدور رواية جديدة لنجيب محفوظ،، وحين قلبت المجلة، وقرأت تاريخها، فوجئت بأنه يرجع ثلاثين عاما إلى الوراء، ولا أعرف كيف وجدت في عيادة الطبيب، أو لعلها كانت موجودة منذ أن افتتحت تلك العيادة، وظلت هكذا يلقي عليها المرضى المنتظرون، نظرات سريعة خاطفة، ولا يهتمون بما فيها من أخبار ذبلت وماتت منذ عهد.
بالنسبة لتقبل الفكرة، والتعامل معها كابتكار، وليس بالفوضى، التي يوردها المعلقون دائما، كلما جاءت ثمة مقارنة بين الغرب، والعالم العربي، فأنا أعتقد أن الأمر ما يزال غامضا حتى الآن، فليس كل ما هو عربي بالضرورة، غاص بالفوضى، والعكس حين يكون الأمر أوروبيا، ونقول بأنه مرتب، فكل مجتمع فيه نواقص تظهر مرة وتختفي مرات، ولو نظرنا إلى العالم العربي بعين محايدة، لشاهدنا بعض الأشياء الجيدة بجانب العيوب، وهناك أشياء كثيرة جيدة، يفتقدها الغرب قطعا، هذا في ما يخص المجتمع عامة، وتماسك الأسرة، وسخاء الناس، ولكن القراءة بالتحديد، تبدو في أزمة حقيقية، ولطالما نوهت في مقالات عديدة، ونوه غيري من المهتمين بالشأن القرائي، إلى أن الاستقرار، وقوة الاقتصاد، والشعور بالزهو بأوطاننا، من العوامل التي تشجع على احتضان القراءة، وعدم التفريط فيها، والذي حدث أننا مررنا بعهود ذهبية بالنسبة للقراءة، وجاءت أزمنة أخرى، بثت التشتت، وعدم الأمان، وضاعت منا تلك البذور التي كنا نمسك بها، وحتى في الأوطان المستقرة سياسيا واقتصاديا، دخلت عوامل أخرى، مثل التكنولوجيا المتقدمة وسحبت كل شيء.
على الرغم من ذلك، لا مشكلة أبدا، وفي كل جيل، مثلما نجد مبدعين جددا، بزغوا فجأة من حيث لا ندري، نجد متابعين للإبداع بزغوا هم أيضا واستعدوا لمتابعة كل ما ينتجه الخيال البشري، ورواق الكتب في كتارا، ليس لأولئك الذين لا يعرفون الكتب ولا يحبونها، ولن يفرض نفسه على أحد، هو للذين يحبون الكتب، وأحبوا تلك الخزائن الحمراء، ووضعوا فيها شيئا وأخذوا شيئا آخر، وشاهدت حين وضعت مشاركتي داخل الخزانة، والتفت إلى الخلف، أن شابا، أخذ كتابا وضعته، وترك كتابا مكانه.
آمل في المرة المقبلة، حين أزور رواق الكتب، أن أعثر على عدد أكبر من الخزائن، وعدد أكبر من الناس، يلتفون حولها، ولن يبدو الأمر غريبا حقا، لو أحيينا أمسية للقراءات القصصية أو إلقاء الشعر، في ذلك المكان الجيد، الجاذب لمعان كثيرة، ومهمة.
مقال رأي للكاتب والروائي السوداني أمير تاج السر نقلا عن نقلا عن صحيفة “القدس العربي”