تخطي التنقل

لقد تم غلق باب الترشح للدورة الحادية عشرة.

عبد الرحيم جيران يكتب: نشأة الرواية والحدود الثقافية

عبد الرحيم جيران يكتب: نشأة الرواية والحدود الثقافية

كنت قد نشرت مقالا في جريدة «القدس العربي» حول نشأة الرواية متحدثا عن اختيار ثالث يربطها بنشأة الفردانية في المجتمع الحديث. لكن الفكر ليس بمثابة قطار له وجهة واحدة، بل هو رقصة نحلة، تتكون حركته من ذهاب وإياب لا تهدأ، وفي حركته هذه يتأمل نفسه، فيضطر إلى إعادة النظر في ما أرساه من قبل أو يرممه، أو يضيف إليه.

وليس هذا المقال إلا تعبيرا عن هذه الحركة. وأريد أن أحلل فيه إشكالية لطالما أسالت المداد حولها في العالم العربي، وكنت ممن ظنوا أنهم قد اختاروا الوجهة الصحيحة. وما هذه الإشكالية إلا السؤال عما إذا كان التراث العربي قد عرف الرواية؟ وإذا عرفها فما طبيعتها؟ وهل يمكن عد نصوص التخييل السردي العربي العريق نماذج دالة في هذا الصدد؟ وإذا كان هذا كله مجرد وهم نظري إثنو-مركزي يحاول تجاوز المرض التاريخي (الانحطاط) بالتحصن بالأسبقية في كل شيء، فهل نشأت الرواية الأوروبية من داخل التاريخ التخييلي الأوروبي وحده، ولم تستق بعض مقوماتها من الثقافات الأخرى؟ ألا يسقطنا هذا السؤال الأخير في إثنو- مركزية أوروبية أخرى، وألا يتجاهل التطور التكويني التاريخي الذي تتفاعل بوساطته الحدود  الثقافية- الجغرافية (صقلية- الأندلس)؟

سنترك موقفنا يتشكل من خلال معالجة هذه الأسئلة، ولنعد كلا من الإجابتين صحيحتين: أ- للعرب في تراثهم السردي نصيبٌ من نشأة الرواية. ب- الرواية نتاج صيرورة سوسيو- ثقافية غربية. لكن الشطط يكمن في موضعة الإجابتين، وصياغتهما نظريا وفق تحيزات أيديولوجية، لا وفق توجهات معرفية خالصة. وحتى لا يكون هذا الحكم قاسيأ نعد الإجابتين خارج منطق التاريخ. وأجازف بالفرضية الآتية: لقد نشأت الرواية وفق تفاعل تكويني تاريخي للتخييل الغربي- مع أصول حكائية تخييلية غيرية مدتها على الأقل بشكلها البدائي الأول.

ولنؤكد الفرضية أعلاه ينبغي تقبل كون الرواية نشأت في سياق لساني جديد يتمثل في تحول اللغات القومية الشفهية (باختين) إلى لغات كتابة قطعت مع اللغة اللاتينية؛ الشيء الذي أدى إلى أن تحمل (هذه اللغات) معها سمات الثقافة الشفهية، وأجناسها التخييلية، وأيضا تفاعلها مع حدودها الثقافية- الجغرافية. وكان على الرواية أن تتأسس بالتدريج متخلية عن التراث اليوناني- اللاتيني (الملحمة)، وأن تستقي مكوناتها للتعبير عن التحول الاقتصادي- الفكري الذي صاحب عصر النهضة من عملية تطوير عمق تراثات اللغات القومية. وليس هذا العمق سوى مرونة التراثات الشفهية في تقبل ما يحاذيها من جوار ثقافي. والمقصود بهذا أن بزوغ شكل الرواية الجنيني كان متصلا بتفاعل الحدود التكويني التاريخي؛ فقد كان ميراث اللغات القومية الشفهية هجينا لا يخضع لمصفاة الرسمي، وكان زاخرا بكل أشكال تفاعل ثقافات الحدود في ما بينها.

نضع سؤال مساهمة التراث العربي في نشأة الرواية في الإطار النظري أعلاه، فقد كانت الحدود الثقافية الغربية متداخلة مع الحدود الثقافية العربية، ومتفاعلة معها، فلا يعقل أن ينقل ابن رشد إلى أعرق الجامعات الغربية، ولا تنقل النصوص التخييلية العربية. ولنأخذ للبرهنة على هذا التفاعل التكويني التاريخي المساهم في إنتاج الرواية النص الذي شكّل الإرهاص الأولي لها، وأقصد به رواية «دون كيخوتة» لميغيل سرفانتيس؛ فهي تتضمن في بنيتها الحوافز التي اشتغل عليها النص التخييلي العربي. وتتحدد هذه الحوافز في الآتي: أ- الانبثاق من الكتب، ب- الحكاية الإطار، ج- تعدد الحكايات التي لا تقبل التجاور إلا بوساطة الحكاية الإطار، د- محاكاة نموذج معين، هـ- تثمين الأفعال (الأعمال العظيمة )، و- المقارعة، ز- النبرة الساخرة، ح- إحياء القيم. ومما سيصدم عديدا من الباحثين هو عد رسالة «التوابع والزوابع» لابن شهيد الأندلسي مصدرا- أصلا لتفاعل الرواية التخييلي مع الحدود الثقافية- الجغرافية؛ خاصة إذا ما تنبه إلى أن هذه الرسالة تعَد جزءا من التراث الأندلسي الذي لم يكن المتخيل الإسباني بمنأى عنه. ويظهر تأثير هذه الرسالة واضحا في تخييل نص «دون كيخوتة» على مستوى الحوافز المذكورة آنفا على النحو الآتي: أ- هناك الحكاية الإطار المتمثلة في السفر، ومغادرة بلد الإقامة من أجل إنجاز أعمال عظيمة، ويتمثل هذا الأمر في تعدد أنواع مقارعات ابن شهيد للشعراء القدماء التي يوازيها في «دون كيخوتة» تعدد أنواع مغامراته، مع اختلاف في الطابع الأَنطولوجي للأعمال العظيمة. ب- الموازاة بين قبول المقارعات الشعرية في «التوابع والزوابع» التجاور في ما بينها بفعل حركة التنقل التي هي جزء من الحكاية الإطار وقبول المغامرات في «دون كيخوتة» التجاور  بفعل الحكاية الإطار المتمثلة في التنقل أيضا عبر بلدات إسبانيا. ج- تثمين الأفعال الماثل في إجازة ابن شهيد، وهو يوازي التثمين الذاتي للأفعال من قبَل دون كيخوتة، والمتمثل في الرسائل التي كان يرسلها إلى دولسينيا. د-الموازاة بين إحياء قيم شعرية قديمة أصيلة بغاية مجابهة قيم شعرية متدهورة وإحياء قيم الفروسية لمجابهة قيم اجتماعية بورجوازية جنينية. هـ- محاكاة النموذج الشعري القديم يوازي تقليد الفارس الجوال. و- لا نريد أن نبالغ في حافز الانبثاق من الكتب التي يخلو منها نص ابن شهيد ونقول إنه انبثاق من تراث شعري في حالة تهديد، بل نقول إن ميغيل سرفانتس لم يكن على علم برسالة التوابع والزوابع فحسب، بل بألف ليلة وليلة أيضا، ما دامت الثقافة العربية تقبع في لاوعي أي إسباني. وليس بمقدور أي أحد أن ينفي كون شهرزاد قد انبثقت من الكتب؛ ومن ثمة فإن الانبثاق من الكتب يٌعَد حافزا سابقا على دون كيخوتة.

لا يتسع المجال لتطوير هذه المقارنة إلى أقصى ما يمكن من الاستخلاصات، لكننا نكتفي بالخلاصة الآتية: لم تكن الرواية الغربية بمعزل عن التفاعل مع الحدود الثقافية- الجغرافية، وفي مقدمة هذا التفاعل مع التراث الحكائي العربي؛ فقد كان هذا الأخير يتوسط عملية المرور من التخييل الحكائي القديم إلى التخييل الحكائي الحديث؛ أي أن المرور من التخييل البطولي إلى التخييل البشري كان قد تم بوساطة ما يمكن تسميته بالتخييل الدنيوي- اليومي العربي (المقامات- البخلاء- بعض حكايات الف ليلة وليلة… الخ). وقد ارتبط هذا التخييل بزمرة اجتماعية ممثلة في الحرفيين والتجار، التي لم تتطور، وأجهضت بفعل قوة النمط الاقتصادي الإلجائي الذي انهارت بسببه الخلافة. وكان من الطبيعي أن ينتقل الميراث التخييلي لهذه الزمرة إلى الغرب، الذي وجدت فيه أسباب التطور. نستخلص من هذا حلا ثالثا إلى جانب الحل الأصولي والحل التغريبي. وهو أن الرواية تأسست في الغرب، لكنها لم تكن بمعزل عن النماذج العربية التي كانت تؤسس لتحولات جنينية في التراث التخييلي الحكائي الإنساني.

مقال رأي للأديب المغربي عبد الرحيم جيران نقلا عن صحيفة القدس العربي

 

 


أضف تعليق