من العادات المرافقة لفعل الكتابة، والقراءة العادية، سواء أن كانت للمواد الأدبية، أو أي مواد أخرى، عادة قراءة المخطوطات، أي الأعمال الإبداعية التي يبحث أصحابها عن رأي مساند، والتي تتوفر للكاتب بطرق عدة، أهمها البريد الإلكتروني الذي يمكن أن يحمل يوميا مخطوطا أو اثنين، ومواقع التواصل الاجتماعي التي يتوفر فيها الكاتب المخضرم، من أجل إنشاء علاقات جيدة مع قرائه، ومحيطه الثقافي.
وحقيقة تبدو تلك الصيغة في الوجود بشكل كبير والتفاعل بجدية ومع الجميع، مكلفة جدا، حيث تحدث بعض المنغصات دائما، وربما يفقد الكاتب كثيرا من أصدقائه، حين لا يستطيع تلبية احتياجات الجميع، في الإدلاء برأيه، أو كتابة تقديم يحتاجه أحد المبدعين الجدد، بوهم أنه قد يشكل مدخلا جيدا له إلى الساحة الأدبية، المكتظة بآلاف الباحثين عن فرص.
بالنسبة لتقديم الآخرين بكتابة مقدمات مساندة على كتبهم، أو بضعة سطور على أغلفة تلك الكتب الخلفية، فأنا شخصيا أعتبرها عادة أدبية، أو تقليدا أدبيا متوارثا بلا فائدة كبيرة، تم اقتراحه يوما وبقي إلى الآن، تماما كصورة المؤلف الموضوعة على الغلاف الخلفي أيضا، ولا تضيف للكتاب أي قيمة جمالية أو فنية، بمعنى أن الكتاب لن يحيا بوجودها، ولن يموت إن حذفت، وأعتقد أن العكس أفضل، حين ينشر الكتاب بلا أي هوية تعريفية للمؤلف، ويترك النص وحده، ليشق طريقه إلى أذهان القراءة، وأذكر أن التعريف بالمؤلف، في الماضي كان ثقيلا جدا، وقلما أكملت قراءته، وربما يكون دافعا قويا لعدم شرائي الكتاب حين أقلبه في المكتبة، وأرى صورة المؤلف وتحتها هذا التعريف الطويل الذي يتحدث عن تاريخ ولادته ونشأته، وتعلقه باللغة العربية، وإشادة معلمي المدرسة بنتاجه المبكر وتشجيعه، ثم يستعرض التعريف بعد ذلك، شهادات ربما حصل عليها، ودورات علمية بعيدة عن الإبداع ربما خاضها، وهناك من يورد حتى مراسلات بينه وبين كاتب آخر، ولن أبالغ إن قلت إن أحدهم كتب مرة على ظهر ديوان شعري، إنه تعرف إلى الغزل باكرا، وكتبه في قصائد، حين أنشأ علاقة عاطفية مع بنت الجيران، وهو في المرحلة المتوسطة.
بعد ذلك التعريف، الذي سيكون مكتوبا بحروف دقيقة جدا من أجل استيعاب كل ما يمكن أن يكتب ولا يكتب، تأتي السطور التي تزكي العمل، والمكتوبة غالبا بقلم موثوق في دقته وتذوقه، وقد حصل صاحب الكتاب على تلك التزكية، بصعوبة شديدة، وربما كان ينتظر كاتبها ساعات أمام بيته، أو في المقهى، حيث اعتاد أن يجلس، فلم يكن ثمة بريد إلكتروني في ذلك الزمان، ولا مواقع تواصل اجتماعي، تجعل من البعيد قريبا، كما يحدث اليوم، وحتى معارض الكتب التي كانت متوفرة في ذلك الوقت، ويمكن اصطياد كاتب عظيم داخل أحدها، كانت خجولة وبدائية، ولا توفر فعاليات يدعى إليها الكتاب، مثل اليوم، كما أننا لم نكن نعرف موضة التوقيعات التي انتشرت الآن بجنون، ولدرجة بت أخشى أن تفرض عليها رسوم، من إدارات المعارض، من شدة الإقبال عليها.
في بداياتي، كنت داخل منظومة، تقديم الأجيال المكرسة للأجيال المبتدئة، تلك، بمعنى أن واحدا من الكبار المعروفين في حقل الرواية، لن يضيره أن يكتب لي خمسة أو ستة سطور على غلاف كتابي، حتى يلفت النظر، ذهبت بكتابي الأول مخطوطا، إلى المقاهي في مصر، أقرأ مقاطع منه على كثيرين، أحب كتاباتهم، وأثق في أسمائهم، وأنهم سيقدمون لي خدمة جيدة بقراءة الكتاب، وتقديمه، وحين يطلبه أحدهم لقراءة النص كاملا، والإدلاء برأيه، أفر بنصي بعيدا. كان النص مكتوبا بخط اليد، مخطوطا وحيدا، بلا أي نسخة إضافية، ويمكن جدا أن يضيع، ومعه يضيع مجهود كنت بذلته من أجل الكتابة، وهكذا حين صدرت رواية “كرمكول” الصغيرة، الضاجة بالشعر، عن دار الغد في القاهرة، صدرت بلا هوية تعريفية، ولا سطور تزكيها من كاتب عظيم، لكن الأقلام الكبيرة، تناولتها بعد ذلك، ليس لجودتها بالطبع، ولكن لأنها كانت شعرا ملعونا، في ثياب السرد، وثوبا كان يحتاج إلى خيوط أكثر قبل أن يسمى رواية، وقال لي الشاعر الراحل كمال عبد الحليم، صاحب الدار التي نشرتها، وكانت دارا صغيرة، وشعبية، إن هناك اختراعات كثيرة في اللغة، ستفيدك في المستقبل، فلا تنظر لهذه الرواية كإنجاز حياتي، ولكن اعتبرها تمرينا أوليا. وقد قبلت كلامه بالطبع، وقبلت كلام كثيرين، وما زلت أقبل الكلام مهما كانت مرارته، وكان عدم إنصافه.
أعود لقراءة المخطوطات، العادة التي بات الكاتب ملزما بها، تلافيا لغضب الأصدقاء، ونفــــيا لتهمة محاربة الأجيال الجديدة، وأزعم أنها ليست عادة كل الناس، أي ليس كل من كان كاتبا معروفا، يلزم نفسه بقراءة مخطوطات الآخرين، فرغم التقدم الهائل في تقنية الاتصال، وعدم وجود منفى بعيــــد أو آمن للاختباء فيه من جيوش الإعلام التي تكشف أكثر العورات تسترا، ما زال هناك من لا يستطيع أحد العثــــور عليه، وأعرف زملاء لا يردون على اتصال، ولا يقــــرأون الرسائل في البريد الإلكتروني، وإن قرأوها لا يردون، وتبــــدو صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، أشبه بالبيوت المهجورة، لا تجد فيها آثار حياة إلا نادرا، ولا تجد أيضا توقيعهم على أغلفة كتب لمبتدئين أو غير مبتدئين، لكن هؤلاء يفاجئونك دائما بأعمال إبداعية جديدة، تخصهم وحدهم.
أقول في النهاية، إن قراءة المخطوطات بهذه الآلية التي وضحتها، تبدو عملا اختياريا بحتا، يختاره الكاتب القديم، بإرادته الحرة، أو بغير إرادته الحرة، حين يكون منغمسا بثقل ما في معمعة الكتابة، هو يحاول أن يكون موجودا من أجل كتابته وحده، لكن الذين ينتبهون إلى وجوده، كثيرين. وقد عبرت عن هذه الجزيئية في أحد أعمالي، على لسان قاص شاب، قصد كاتبا مخضرما في بيته ليقدمه، حين قال ردا على استياء الكاتب، واستغرابه من العثور على بيته: الذي لا يريد أن يعثر عليه أحد، عليه العيش في القطب الشمالي أو المكسيك.
مقال رأي للكاتب والروائي السوداني أمير تاج السر نقلا عن صحيفة “القدس العربي”