يندرج كتاب: “الفتنة والآخر: أنساق الغيرية في السرد العربي” ضمن تقليد دراسي يتوخى الانطلاق من إشكال موحد واستقراء تجلياته عمودياً عبر الأجناس المختلفة، وأفقياً عبر التطور والامتداد الزمنيين، وبناء على ذلك فإن هذه الدراسة لن تختص بعصر محدد ولا بمرحلة مفردة، ولكن ستعمل على تحليل تطور أنساق الغيرية في أساليب التخييل السردي، انطلاقاً من العصور القديمة (العصر العباسي ومرحلة ملوك الطوائف بالأندلس أساساً)، مع الاشتغال أكثر على السرديات الحديثة والمعاصرة.
وعليه، خصص المؤلف فصل نظري أول لعلاقة “الغيرية وفتنة السرد”، معتمداً آخر إنجازات: “النقد الثقافي”، و”دراسات الغيرية”، و”الجنوسة”، و”ما بعد الاستعمار”، ليكون بمثابة تمهيد للفصول المتعاقبة التي خُصص كل واحد منها لجنس سردي مستقل؛ كالرسالة، والخبر، والرواية والسيرة الذاتية والقصة القصيرة، مع غلبة لفن الرواية التي أفرد لها المؤلف ثلاثة فصول، قُسمت بحسب مكونات التشكل الأسلوبي للغيرية وصورها ووظائفها.
وفي الكتاب انطلق المؤلف من افتراض منهجي يرى أن الدائرة المجازية للنصوص السردية العربية (بشتى أنماطها الخطابية) ترسم حدود الوجود والتفاعل منذ البداية وبشكل رمزي في حيزها النوعي الضيق، بحيث لا تكاد تنفصل أنساق الغيرية في النصوص المفردة عن البلاغة النوعية لتصوير الآخرين، على نحو مختلف في كل مرة، … فثمة دوماً حلقات موصولة، لتركيب التفاعل بين الذات والآخر، سواء كان هذا الآخر فرداً أو جماعة أو فضاء جغرافياً أو مقابلاً جنسياً.
وهو الافتراض الذي انتهى بالمؤلف إلى أن الغيرية، كما تمثلها النصوص السردية، هي صور من التفاعل المتغاير بالضرورة، قد تنطلق من مجرد نفور غريزي من الغريب، لتتحول عبر تراكم الصور والأساليب، إلى علامة تنابذ، وقاعدة سجال، في المباني السردية. كما قد تشكل معياراً رمزياً لرصد “فقدان التواصل” و”الشعور بالنفي” و”انعدام الفهم”. أي أنها تتحول بالتدريج إلى وسيلة لاستكناه “الفتنة” الملتبسة دوماً بالآخرين.
القصد في هذا الكتاب، إذن، تقليب وجوه “الفتنة” بما هي محصلة “لاغتياب الآخرين” جمالياً، وفق أصول سردية معلومة، يختص بها كل جنس سردي على نحو فريد، قوامها خصائص أسلوبية وقيم تعبيرية، تجعل للفتنة كنهاً جمالياً يباعد بينها وبين الشقاق والمحنة، ويجريها مجرى الغواية والبيان.
هكذا تتوزع الفتن بحسب تجلي الآخر في الخطاب السردي، وبالنظر إلى مرجع بروزه، ونسق “غيريته” فمن “فتنة الحبيب” إلى “فتنة السفر”، ومن “فتنة العقيدة”، إلى “فتنة الخبر” ومن فتنة الجسد إلى “فتنة القول”… فتن متبدلة بتبدل مواقع “الآخر” في نسق الخطاب النوعي، من الرسالة إلى الخبر ومن الرواية إلى السيرة الذاتية فالقصة القصيرة.