في الساعات الأولى من صباح يوم من الأيام السرمدية التي أخذت تطحن الزمان بثقلها، خرجت نهاد من الكوخ وهي تهلل وتدعو الله بالفرج، وتنظر إلى ولادة شمس جديدة أرسلت أشعتها الذهبية إلى قطرات الماء التي بقيت على أغصان الأشجار بعد ليلة مطيرة لترسلها إلى كبد السماء في دورة طبيعية أخرى. أطلقت دجاجاتها إلى الغابة بينما مرت في حبل العنزة لترعى مع صغيرها كعادتها حول الكوخ. كان الدكتور، مرتفق النافذة المفتوحة التي انهزت دفتيها لثقل أعوادها وهو يرتل القرآن الكريم بصوته الفخم ويعطر أجواء الجزيرة بذكر الله، بينما تهتز الجزيرة كلها بتسابيح الطيور التي تنشد أعذب الألحان في صوت مهيب لأصداء الجبال التي تغطيها الخضرة في كل مكان. وفي التفاتة عفوية من نهاد إلى عرف البحر رأت ما لم تصدقه عيناها، إنه شبح منسي، شبخ إختفى من طيات الأمل الباهت…ففرت فاها ذهولاً لقد كانت تدعو الله كل حين تراه..ولكن بعد شهور كسنين: يوسف أجيبت الدعوة…صرخت بأعلى صوتها المتهدج والفرحة تكاد تشق فؤادها: أنور…أنور…إنها سفينة…أقصد مركب…مركب فخم قادم من هناك…الحمد لك يارب…الحمد لك يارب. اخترقت كلماتها حاجب الصوت…بل صوت أنور الشجي…سكت من تلاوته، ونظر من خلال النافذة بعينين ثاقبتين إلى عرض البحر وسأل أخته بصوت إختلط بفرحة فجائية: أين هو؟ أين هو؟ صرخت فيه أخرى بإنفعال: اخرج… أنه هناك… هناك… غير بعيد. خرج أنور يركض حافياً… رفع رأسه نحو المشرق حيث أشارت أخته فرأى مركباً واقفاً على صفحة الماء… ليس ببعيد… تعبث به الأمواج الصغيرة فوق بطن البحر، تبدو للناظر أنها تخادعه لتقذف به من فوقها إلى الصخور المدببة على طرف الجزيرة.