تخطي التنقل

لقد تم غلق باب الترشح في الدورة العاشرة.

محمد عطية محمود عطية

الإسم الكامل: محمد عطية محمود عطية

المعلومات الشخصية:

الاسم الكامل: محمد عطية محمود عطية
مكان الولادة وتاريخها: 3/6/1968 الإسكندرية مصر
الجنسية: مصري

السيرة الحياتية:

محمد عطية محمود MOHAMAD ATTIA MAHMOUD ATTIA \”قاص وناقد\” * عضو اتحاد كتّاب مصر *عضو نادي القصة المصري * محاضر مركزي بالهيئة العامة لقصور الثقافة أخصائي ثقافي بالهيئة العامة لقصور الثقافة منذ 2006 مدقق لغوي ومراجع لكتب المؤتمرات الإقليمية مدير تحرير نشرة غرب ووسط الدلتا الثقافية متزوج وأعول

النتاج الروائي:

رواية مطبوعة: \”دوامات الغياب\” طبعة أولى 2012 حائزة على جائزة اتحاد كتاب مصر للرواية 2013 طبعة ثانية 2015 عن دار غراب للنشر والتوزيع

النتاجات الأخرى:

المجموعة القصصية \”على حافة الحلم\” 2003 المجموعة القصصية \”وخز الأماني\” 2004 المجموعة القصصية \”في انتظار القادم\” ـ دنيا الوفاء للطباعة والنشر ـ 2009 \”\”تجليات سرد الحياة.. قراءة في أدب نجيب محفوظ\”.. هيئة قصور الثقافة \”كتابات نقدية\” 2015 المجموعة القصصية \”عيون بيضاء\”.. الهيئة العامة للكتاب 2016

نقد ودراسات عن الروائي:

دوامات الغياب قراءة في آليات السرد وتقنياته د/ أحمد المصري يعد محمد عطية محمود صوتاً متميزاً له رنينه الخاص ونغمته المتفردة التي لا تخطئها الأذن العاشقة للفن الراقي والإبداع المتميز، فهو صاحب تجربة فنية فائقة التميز وشديدة الخصوصية ، يحمل على عاتقه هموم مجتمعه ، ويسعى إلى معالجة آفاته وأمراضه المزمنة ، يدافع عن القيم الجميلة والمعاني النبيلة مشهراً قلمه في وجه القبح في زمن ضيعت فيه القيم واختلت الموازين، وهو كاتب جمع أدواته الفنية من مصادر غنية ومتنوعة ، منها المكتسب كالقراءات العميقة والمتنوعة لعيون الأدب العربي والعالمي بالإضافة إلى كثير من الدراسات والأبحاث النقدية المتخصصة ، ومنها ما هو فطري كالموهبة التي منحها الله له فأحسن قبولها ورعايتها فسارع بتنميتها وتعهدها حتى صار واحداً من أبرز الكتاب والنقاد على الساحة الأدبية الآن ، وهو كاتب يمتلك حرفية عالية في توظيف الصورة ، وقدرة فائقة على تطويع اللغة لأداء الهدف المنوط بها بشاعرية وسلاسة تنم عن موهبة واضحة وذائقة أدبية راقية. وقد برع محمد عطية بشكل ملحوظ في كتابة القصة القصيرة مثلما رأينا في مجموعاته: على حافة الحلم، وخز الأمانى، في انتظار القادم، ولم تهتز هذه البراعة أو تتأثر بانتقاله إلى كتابة الرواية بل على العكس زادت تألقاً ونضوجاً فأنتجت لنا هذه الرواية المتميزة دوامات الغياب التي تحمل كثيراً من سمات القصة القصيرة مثل التكثيف اللغوي وشاعرية اللغة وعدم الترهل في سرد الأحداث وغيرها من السمات الفنية التي أضافت كثيراً لهذه الرواية . ورواية دوامات الغياب رواية تقع في مائة وثلاثين صفحة مقسمة إلى ثلاثة أجزاء:- 1) الجزء الأول وعنوانه : دوامة أولى ويشمل ثمانية وثلاثين صفحة ويحتوى على تسعة فصول قصيرة . 2) الجزء الثاني وعنوانه : دوامات أخرى ويشغل سبعاً وأربعين صفحة ، ويحتوى على اثنى عشر فصلاً. 3) الجزء الثالث وعنوانه: دوامة ليست الأخيرة ويشغل أربعاً وثلاثين صفحة ويحتوى على سبعة فصول. دلالة العنوان : يمثل العنوان العتبة الأولى التي يتواصل القارئ من خلالها مع النص وبقدر ما يحمل العنوان من شحنة دلالية وإيحائية تضئ المحتوى وتحفز مخيلة القارئ وتثير توقعاته بقدر ما يحقق وظيفته التواصلية عبر مستوياته المتعددة : التركيبية ، والدلالية ، والتداولية فهو من مقومات الجمالية والفنية التي تكشف عن مدى تمكن المبدع من موضوعه، وهو من أبرز مفاتيح قراءة النص الأدبي وفك استغلاقه، بل إنه من الأسس المؤثرة في إحداث الثقة والجمال واللذة، وقد يرتقى العنوان جمالياً ليصبح نصاً يتشاكل مع النص المتن ويتقابل معه، وقد ينافسه في إحداث الأثر المناسب باعتماده على الاقتصاد في اللفظ والتوسع في الدلالة والقدرة على توظيف الرمز والإيحاء والإشارة بالقدرة نفسها التي يوظفها النص على الرغم من قصر العنوان وتكثيفه قياساً إلى المتن وكأن العنوان يعتصر التجربة الإبداعية في كلمة أو مجموعة كلمات. وقد تخير محمد عطية لروايته عنواناً من هذا النوع جاء معتمداً على مركب إضافي شبه جملة (دوامات الغياب) وهذا التركيب الإضافي تتحكم فيه علاقة توليدية وعلاقة تحويلية، فأما العلاقة التوليدية فهى علاقة الإضافة بين اسمين أولهما نكرة وثانيهما معرفة وما بين الاسمين حرف جر مقدر هو واحد من حروف الجر الأربعة (ل،من،في،ك) . أما العلاقة التحويلية: فتعنى تحول من نطاق القدرة الكامنة إلى نطاق القدرة المستخدمة؛ ذلك بأن انتقال قاعدة الإضافة إلى ميدان التحقق الواقعي للغة يسقط حرف الجر المقدر بين طرفيها. هذا التعقيد الذي يجمع التوليد والتحويل لصياغة مركب لغوي لا يقوم بذاته وإنما يتعلق بسواه فطرفي التركيب الإضافي لا يقومان بذاتهما وإنما يتعلق كل منهما بالآخر فأحدهما يحدد ماهية الآخر، يلعب دور علامة تضاف إلى العلامات اللغوية. وقد جاءت الكلمة الأولى من العنوان جمعاً يدل على الكثرة والتعدد ويحمل دلالات الحيرة والغموض والغياب، في حين جاءت الكلمة الثانية مفردة لأن الغياب واحد في كل زمان ومكان فمهما تعددت صوره، أو اختلفت مظاهره فإن أثره واحد على النفس، وقد برع كاتبنا في تقديم توزيعات مختلفة للحن واحد هو الغياب سواء أكان مادياً أم معنوياً. وفي إضافة الدوامات إلى الغياب تخصيص لهذه الدوامات وقصر لها على الغياب. ورغم هذا التخصيص فالرواية لا تتحدث عن الغياب ولكنها تتحدث عن الصراع بين الحضور والغياب وهو الصراع الذي يبدأ من أول الإهداء الذي وضعه الكاتب على صدر روايته حيث قال :- إلى الروح الطاهرة التي مازالت تحوطني روح أمي و إلى الروح التي اقتحمتني، وأبت أن تفارقني ليكون حضورها مكتملاً، دائماً..في الغياب و إلى حلمي…ذاك البعيد القريب.. الذي ما زال سادراً في تيهه هذا الإهداء يوضح الصراع بين الحضور والغياب في الرواية بل في حياة الكاتب صراع يتبادلان فيه النصر والهزيمة ، فالأم التي غابت فعلياً أو غابت جسدياً حاضرة روحياً ليعوض حضورها المعنوي غيابها المادى فتتعادل الكفتان فلا غالب ولا مغلوب مقاومة لحضور يتأبى على الغياب، ويؤكد الكاتب على نفس المعنى في الجزء الثاني من الإهداء فهذه الروح التي سكنت الكاتب يكتمل حضورها عند غيابها. أما الحلم فهو يتأرجح قرباً وبعداً فلا هو حاضر ولا هو غائب. هذا الصراع والتأرجح في العلاقة بين الحضور والغياب هو محور روايتنا الذي تدور حوله وتقوم عليه فكل أحداثها وشخصياتها تعاني من صراع مع دوامات الغياب التي تحيط بها وتحاول جذبها والغوص بها في أعماق النسيان فتارة تسقط في غيابات الغياب مستسلمة ضائعة ، وتارة تقاوم وتجاهد حتى تنتصر وتعود من جديد إلى الحياة. يرى بعض النقاد المحدثين أن الشخصية الروائية ليست سوى مجموع كلمات أو هي براعة أدبية أو هي وسيط، ولكن لها من القوة مالا يخفى وبخاصة عند الكتاب المتمكنين من أدوات فنهم ولعل هذا ما يجعلهم يبدون لنا وكأنهم شخوص من لحم ودم ، ومرد ذلك ليس إلى أنهم يمكن أن يشبهوا أياً منا وإنما لأنهم مقنعون. إن الشخصيات الروائية هي أبداً شخصيات روائية أو هي شخصيات ورقية على حد تعبير رولان بارت ولكنها تحيل على شئ آخر، وتتيح لنا نحن القراء أن نتعرف على أصناف من الناس الذين وجدوا ويوجدون، أو أن نفهمهم ونفهم سلوكهم ومشاعرهم وعاداتهم وما يتعلق بملامحهم الجسدية أو طاقاتهم الإنسانية. وقد أجاد محمد عطية إجادة واضحة في تقديم شخوص روايته تقديماً مقنعاً فأتقن بناء شخصياته عبر الوصف الخارجي لها، أو الحوار الذي يدور بينها، أو المنولوج الداخلي الدائر في نفوسها، أو الاستعانة بالشخصيات الثانوية لتوضيح أفكار الشخصيات الرئيسة وصورها، وغيرها من وسائل رسم بناء الشخصية الروائية. ورغم تزاحم الشخصيات بشكل ملحوظ في روايتنا إلا أن الكاتب تمكن بمهارة واضحة من الإمساك بجميع خيوط هذه الشخصيات فأحسن توظيفها وتحريكها داخل الرواية، ونظراً لكثرة شخصيات الرواية فقد كثرت الحكايات الفرعية وتنوعت وإن كانت كلها تلتقي وتتماس في بعض النقاط، فالملاحظ أن معظم شخصيات الرواية وإن اختلفت أحياناً في ثقافاتها ورؤاها – تتفق في كونها مقهورة مهمشة تعانى نوعاً من أنواع الفقد والغياب، وتبدو المفارقة بوضوح عند النظر في أسماء هذه الشخصيات فكثير منها يحمل أسماءً لها دلالات ضدية مع واقعه مثل: مستورة، كامل، صبري، حلمي، أمل.. فمستورة لم تحظ بالستر إلا بصورة مشوهة بزواج شكلي من رجل مستكين قوى البنية ضعيف الشخصية، وكامل لا علاقة له بالكمال لا على المستوى الأخلاقي ولا المستوى الأسري، أما حلمي فلم يحقق شيئاً من أحلامه، وكذلك أمل التي سقطت في دوامة اليأس بعد غياب حلمي وضياعه فلم تحقق شيئاً من آمالها. كما نلاحظ بوضوح أن هذه الشخصيات قد حققت فشلاً ذريعاً في علاقاتها العاطفية فغاب عنها الحب والاستقرار والأمان. وتحت وطأة الفشل والقهر تصارع هذه الشخصيات من أجل تحقيق ذاتها والصمود في وجه الغياب الزاحف بقوة ليقتلع آمالهم وأحلامهم بل ويقتلعهم أنفسهم من جذورهم، وكان من نتيجة هذا الصراع صمود بعض الشخصيات مثل مستورة وإصرارها على البقاء والصمود وغياب بعض الشخصيات التي سرعان ما جذبتها دوامة الغياب فغمرها النسيان وذهبت بلا عودة مثل: حلمي، وصبري، وهناك من صارع الغياب حتى تمكن من العودة مرة أخرى مثل:كامل الذي استطاع العودة مرة أخرى إلى الشونة بعد طرده منها ولكنه عاد بشكل جديد أكثر قوة ونفوذاً ليحقق ذاته المفقودة. كما نلاحظ العلاقة القوية بين مستورة وبطة وكيف تحولت بطة إلى مستورة أخرى بعد أن أغواها خلف وتخلى عنها، مثلما أغوى كامل مستورة وتخلى عنها أيضاً، لذلك حرصت مستورة بكل ما أوتيت من قوة على الدفاع عن بطة وحمايتها ولما عجزت لجأت إلى الحلول الفنية والخرافية بالتماسها البركة من سيدى القباري علها تجد عنده ما لم تستطع تحقيقه من أمان مفقود وستر مرتجى لبطة المخدوعة بعلاقة حب فاشلة. وقد حرص محمد عطية في رسم للشخصيات على التركيز على عناصر مختلفة من شأنها تقديم أفضل صورة للشخصية منها: (1) المظهر الخارجي للشخصية وملامحها الشكلية والجسمية. ويظهر هذا في وصفه الدقيق لمعظم شخصياته مثل هذا الوصف: \”ما إن غادرت الكشك، حتى فاجأها موفق بإطلالته المتوثبة التي تخرق سكون لحظات قدومه من أى اتجاه، بجبينه المصفر اللامع.. تندفع منه عيناه الضيقتان الفزعتان – دوما – من محجريها بوجهه الشمعي.. يبتلعه شارب كث عريض.. يتهدل على شفتيه.. يقترب من قاعدة ذقنه المضغوطة.. تكاد تغطس فيه أنفه، وتختفي فتحتاها، كما تختفي يداه خلف هيكله الهش ممسكتين بورقة مطبقة وقلم\”. هذا الوصف الذي نصادف مثله كثيراً بصورة تكاد تتكرر مع كل شخصيات الرواية يتميز بالدقة الشديدة في رسم صورة فوتوغرافية للشخصية تجعلها واضحة في ذهن المتلقي تتحرك أمامه فلا يشعر بغرابتها أو بعدها عنه، لذلك يشعر المتلقي بالألفة مع شخصيات الرواية وكأنه التقاهم وجالسهم مرات عدة. (2) التكوين النفسي والصفات الداخلية والخبرات المكتسبة ويظهر واضحاً في حديث الكاتب عن شخصيته المحورية مستورة ، فما عانته من فقد وحرمان للحب والأمان ينعكس على تصرفاتها وسلوكياتها، كذلك نراه في شخصية حلمى الذى لم يتمكن من الصمود أمام الفساد والقبح فانهار سريعاً وخرج من الشونة بلا عودة، ونراه في شخصية خليل الذي يعاني ضغوطاً نفسية شديدة نتيجة تجاهل زوجته لمشاعره المتوهجة وغمطها لحقه زوجاً وأباً مما أدى به إلى العزلة فغاب عقله وهام في عالم متخيل جعله مثاراً لسخرية زملائه في العمل. (3) البيئة المحيطة بالشخصية مثل الجذور العائلية وغيرها وقد أجاد محمد عطية في إبراز أثر البيئة في رسم ملامح الشخصية داخلياً وخارجياً سواء أكانت هذه البيئة بينة المنشأ ريفية كانت أم شعبية، أم كانت بيئة العمل متمثلة في الشونة التي تحتضن كل شخصيات الرواية. (4) التحولات التي تطرأ على الشخصيات مع تطور الحياة وتغير الظروف. وقد رأينا هذا واضحاً في معظم شخصيات الرواية، فمستورة التي لجأت إلى خالتها بعد خديعة كامل لها، بحثاً عن ستر لفضيحتها، قامت بنفس دور الخالة في محاولة ستر بطة بعد خديعة خلف لها، وبطة التي كانت تنكر على مستورة زواجها من عبده رمز الضعف والاستكانة، صارت تتمنى رجلاً مثله بعد فضيحتها وتخلي خلف عنها وإن لم تصرح بذلك، وكامل الذي خرج مطروداً من الشونة عاد إليها مرة أخرى أكثر قوة ونفوذاً وثراءً في محاولة للتعويض النفسي لما لاقاه من ذل ومهانة، وأمل التي تعلق بها حلمي وكانت تقوم بصده وعدم التجاوب معه، تحولت إلى التعلق به والبحث عنه ولكن بعد أن فقدته إلى الأبد. ولأن الشخصيات لا تتحرك في الفراغ وإنما تحتاج إلى بيئة مناسبة لحركتها فإن الكاتب احتفى بالمكان احتفاء خاصاً جعله يلعب دور البطولة في هذه الرواية فالشونة هنا تمثل العامود الفقري الذي يربط كل عناصر الرواية، فهى ليست مجرد مكان، ولكنها تعد معادلاً حسياً ومعنوياً للمجال الشعوري والذهنى للشخصيات، بل يمكننا الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك لنتفق مع ما ذهب إليه د/هيثم الحاج على من أن المكان في هذه الرواية يعد عنصراً داخل الرواية وليس مجرد خلفية للأحداث مما يجعل الشونة بما فيها من مساحات وعمال شخصية أساسية تسهم في دفع الأحداث وتشكيلها وتصاعدها. تحولت الشونة من بيئة حاضنة لشخصيات جاءت من أماكن شتى إلى شخصية محركة للأحداث ومؤثرة فيها إلى حد بعيد، هذه الشونة حولت شخصيات وغيرت أخرى ولفظت أخرى واحتضنت أخرى، تحالفت مع بعضها وتآمرت على بعضها، وفعلت كل ما تفعله الشخصية المحورية في الرواية. وإذا كان للمكان عدة أبعاد ترتبط به وتتأثر، فمن الطبيعي أن تؤثر الشونة على البعدين الاجتماعي والنفسي على وجه الخصوص، فمن الناحية الاجتماعية يسكن الشونة مجموعة من الشخصيات لا يمكن أن تجتمع في غيرها، يسيطر عليها الفقر والعوز والحرمان ويتعرضون لصنوف شتى من القهر والضغوط يفشلون في كثير من الأحيان في التعامل معهم فيلجأون إلى الخرافات والغيبيات مثلما حدث مع مستورة وبطة، هذا القهر يتخذ صوراً كثيرة بداية من القهر النفسي نهاية بالقهر الجنسي. ومن الناحية النفسية يغلف الشخصيات إحساس بالحزن المختلط بالحسرة، والشعور الحاد بالفقد والغياب في صورته المادية أو المعنوية بداية من فقد الأحبة وفلذات الأكباد إلى فقد الآمال والطموحات والأحلام. وليست الشونة هي المكان الوحيد المسيطر على الأحداث في الرواية فهناك إشارات متنوعة لأحياء الإسكندرية المختلفة مثل حى القباري والمكس والبياصة وعامود السوارى وكوبري التاريخ وغيرها من المناطق الشعبية المختلفة، كما أننا نشاهد ترام الإسكندرية في خط سير محدد أشار إليه الكاتب بمنتهى الدقة. وقد حرص الكاتب على ذكر بعض اللمحات التاريخية عن هذه الأماكن لتقريبها إلى ذهن القارئ فوضع بعض الإيضاحات في الهامش مثل إشارته إلى تاريخ منطقة عامود السواري ص23 وكوبري التاريخ ص57 وقد كان موفقاً في هذا الصنيع خاصة بالنسبة للقراء اللذين لا ينتمون لمدينة الإسكندرية ولا يعرفون هذه الأماكن لكنى أختلف معه في بعض المواضع التى زاد فيها الوصف التفصيلي والسرد التاريخي داخل متن الرواية مثل قوله :- استلمنا جانب الكوبري القادم، مخترقاً شارع سيدى القباري من حدود الملاحات القديمة التي ردم أجزاء منها من أجله، ومن أجل ربط كباري أخرى به تنقل الحركة من الجنوب الغربي الصحراوي إلى جوف الميناء..يقتطع في طريقه من شارع الأمان إلى شارع المكس مساحات من المخازن والشون المتجاورة ومن سينما الهلال المرتبطة بمنطقة القباري منذ عهد الاحتلال . فالجزء الأول عن الكوبري والملاحات لم يكن ضرورياً أو كان من الممكن الإشارة له في الهامش مثلما فعل الكاتب قبل ذلك. كذلك الحال في سرد قصة الشيخ القباري التى استغرقت صفحة وبضع صفحة من الرواية وكان يمكن عرضها بشكل مختصر أو ذكرهما بالهامش . آليات السرد (1) النظام الزمنى لا يتقيد زمن السرد بالتتابع المنطقي للأحداث؛ لأنه يخضع لأسلوب المؤلف في الحكى الذي يتخذ في كثير من الأحيان طابعاً دلالياً أو جمالياً، وينتج من ذلك الاختلاف بين زمن الحكى وزمن السرد عديد من المفارقات الزمنية تحدد ما يعرف بالنظام الزمنى وهو ما يمكن السرد من الاسترجاع أو الاستباق في سرد الأحداث. وكاتبنا كثيراً ما يلجأ إلى الاسترجاع والفلاش باك في الرواية ومن توابع هذا الاسترجاع (الحديث النفسي) أو ما يسمى (الحوار الداخلي) فالماضي في حقيقته غير قابل للعودة بحال من الأحوال لكن المقابل لها هو الاستعادة السردية التي تسكن المخيلة ثم تخرج في بنية صياغية تعتمد الفعل الماضي المعبأ بالذكريات الغائبة فتتلاقى هذه التقنية مع مضمون الرواية المركز على هذه الدوامات من الغياب التى تريد ابتلاع كل شئ. وأحياناً يوظف الكاتب تقنية الاسترجاع للتعريف بالشخصيات وإلقاء الضوء على ماضيها ليعطينا تفسيراً لما تفعله في حاضرها، فنحن نفهم تحمس مستورة للانتقام من خلف الذي خدع بطة من أجل الانتقام من شخص كامل فيه، ونفهم حرص كامل على العودة للشونة عندما يطلعنا الكاتب على الطريقة التى أخرج بها منها وهكذا يكسر كاتبنا زمن قصه، أو يكسر حاضر هذا القص ليفتحه على زمن ماض له، وقد يكرر الكاتب هذه اللعبة فيكسر زمن قصه أكثر من مرة ويفتحه على ماض قريب حيناً، وعلى ماض بعيد حيناً آخر، وقد يتفنن في هذه اللعبة فيداخل بين عدة أزمنة ليخلق فضاءً لعالم قصه وليحقق غايات فنية أخرى منها التشويق والتماسك، وهكذا يتضح لنا أن الكاتب لا يستخدم هذه التقنية بعشوائية وإنما بوعى تام بكيفية توظيفها لخدمة إبداعه السردى وقد كان له ما أراد. سرعة القص ومدته الزمنية بعقد مقارنة بين زمن الوقائع وزمن القص تتحدد حركات من السرعة في السرد هي: أ‌- القفز وفيها يكون الزمن الواقعي طويلاً والزمن القولي يقارب الصفر تقريباً وهذه الحركة توجد بشكل قليل في روايتنا. ب‌- الاستراحة وفيها يكون زمن القول أطول وربما لا نهاية له قياساً بالزمن الواقعي ويحدث هذا عندما يكون قص الراوي وصفاً، وهذا نراه بكثرة في روايتنا حين يتخلى الراوى عن سرد الأحداث ليتفرغ للوصف، ومعلوم أن المقاطع الوصفية في النص الروائي تمثل وقفة زمنية ولذلك نجد نوعاً من التوتر يسود النص بين دفع مستوى القص الأول الذي يندفع بالأحداث إلى الأمام على خط الزمن، وبين جذب المقطع الوصفى الذى يشد النص نحو الاستقصاء والسكون. وفي هذا السياق يجب التفرقة بين الصورة الوصفية والصورة السردية فالأولى تصف ساكناً لا يتحرك، والثانية تصف الفعل عن طريق إدخال الحركة على الوصف، ولعل قارئ دوامات الغياب يدرك بسهولة ولع المؤلف بالمنمنمات والتفاصيل الصغيرة، ويلحظ تميزه وقدرته الفائقة على فرض هيمنته على المفردات التي تصنع مشهداً فنياً رائعاً يتحول فيه الوصف إلى لوحة فنية تتشكل بظلال الدلالة وألوان الحروف، ومن أمثلة حركة الاستراحة التى يتآزر فيها التصوير الوصفي مع التصوير السردى وصف مسجد سيدي القباري حيث يقول المؤلف: \”كانت إذا ولجت عبر باب الحديقة مشت مسافة يسيرة محصورة بين صفين من الشجيرات القصيرة المقلمة والمتشابكة ودارت حول الفسقية التي كانت تتوسط الحديقة.. ينهمر من وسطها الماء الزلال يرطب صهد الجو على الداخل.. يبعث في القلب طمأنينة هي جزء يسير من طمأنينتها في حضرة المقام؛ فتجلس إلى أحد الجانبين المرتفعين تحت الشجيرات.. تمسح عرقها.. تلتقط أنفاسها.. تضع صبري إلى جوارها، وما تلبث تتركه، حتى يجري يرتقي درجات ثلاث، قبل أن يجتاز الباب الخشبي العريض للمسجد على ركبتيه وكفيه، ثم يسرع متجهاً إلى اليمين.. يدلف عبر باب حجرة الضريح.. يتعلق به، بينما ينجذب بصره عبر الباب الآخر للحجرة المفتوح على صحن المسجد الواسع، ذي القباب الملونة المرسومة على حوائطه العالية حتى التقائها بحواف الشبابيك الزجاجية المزركشة، المتراصة بأعلى حوائط المسجد.. تعلوها عروق خشبية متقاطعة.. تحمل قبة المسجد بنوافذها المفتوحة.. تجعل نهاره نوراً دائماً متصلاً منذ طلوع الفجر حتى آخر خيوط ضوء النهار\”. وهكذا يصف محمد عطية المسجد وصفاً دقيقاً رائعاً من الداخل والخارج يجعلنا نراه رأي العين في براعة فائقة وقدرة رائعة على التصوير تجعل المتلقي في قلب الصورة لا خارجها . ج- المشهد وفيها يتساوى زمن القص مع زمن القول ويحدث هذا عندما يتوارى الراوي تاركاً شخصياته تتحاور بعضها مع بعض، وهذه الحركة موجودة بكثرة في روايتنا. د- الإيجاز وهي حركة تجعل زمن القص أقصر من زمن الوقائع بمعنى أن الراوي يقص في بضعة أسطر أو عدة مقاطع ما مدته سنوات عدة، وقد حدث هذا أيضاً بكثرة في روايتنا وخاصة في سياقات الاسترجاع الزمني. وبالنظر في هذه السرعات الزمنية يتضح لنا تحقق السرعات الثلاث الاستراحة والمشهد والإيجاز بشكل واضح مع غلبة ملحوظة للاستراحة التي تعتمد على الوصف. الصيغة السردية: الراوي هو وسيلة أو أداة تقنية، يستخدمها الكاتب ليكشف بها عالم قصه، يختبئ الكاتب خلف الراوي، ومفهوم الراوي الشاهد في السرد الروائي يعادل تقنية آلة التصوير في العمل السينمائي، والوظيفة في كلا الحالين هي التقاط المرئي ونقله إلى القارئ أو المشاهد، لتصبح العلاقة لا بين القارئ والكاتب بل بين القارئ المشاهد والمقروء المشهد. وقد برع محمد عطية في استخدام تقنية الراوي الشاهد في روايته، وهي تقنية متأثرة بالتصوير السينمائي، وظيفة الراوي هنا تكمن في قدرته على تركيب الأحداث فيما يشبه المونتاج في العمل السينمائي مما يجعل شخصية الراوي خفية وغائبة في بنية الشكل، تماماً كما المخرج الذي لا نراه إلا في أثره. إن استخدام مفهوم الراوي الشاهد يتطلب مهارة عالية من الراوي، وإلا سقط في شكلية سطحية، ذلك أن أهمية الراوي الشاهد ليست في مجرد عمل آلي يراكم الصورة بتقطيع عبثي لها، بل هي في جعل بنية الشكل تقول، أي في جعل حركة البنية، حركة دالة، وعليه فإن أهمية الراوي الشاهد لا تظهر في المقطع السردي، أو لا تظهر على مستوى المقطع السردي، بل هي قائمة في البنية الكلية للعمل. إن جعل البنية تنطق هو الأمر الذي تتوخاه عملية السرد باعتماد تقنية الراوي الشاهد، وليس مجرد إقامة بنية شكلية. وقد نجح محمد عطية إلى حد بعيد في توظيف هذه التقنية، مع ملاحظة أنه لم يقتصر على هذه التقنية فقط في الرواية حيث لجأ إلى تنويع الراوي في روايته وفق ما يقتضيه سياق السرد حيث راوح بين استخدام الراوي الشاهد والراوي العليم مع ملاحظة سيطرة الراوي الشاهد على معظم أحداث الرواية. الصدى السردي: يقول الفيلسوف الألماني نيتشة: \”إنني أستعرض جميع ما كتبت، فلا تميل نفسي إلا لما كتبه الإنسان بقطرات من دمه\” وما يعنيه نيتشه لون من الكتابة يقتطعها الأديب من لحمه، ويغمسها في محبرة جوفه، ويمدها من رحيق حياته وعصارة فكره ما يجعلها كائناً حياً يتوفر على أسباب الحياة والتواصل في وجدان الكاتب والناس على حد سواء. ومع أن القص لا يشترط أن يكون قصاً عن الذات، أي لا يقص الكاتب حين يكتب عن نفسه، وفي كثير من الأحيان لا يكون ممثلاً لأي من شخصيات روايته ولا تربطه بهم أدنى علاقة تشابه، إلا أنه تبقى شخصية الكاتب واضحة وبصماته منتشرة داخل روايته تنم عن فكره ورؤيته وتجاربه، ولعل قارئ روايتنا يدرك قوة العلاقة بين المؤلف وروايته فهو يروي الأحداث بدقة متناهية توحي باتصاله الوثيق ببنية الرواية بالشونة والأحياء المحيطة بها وربما تكون النشأة أو الإقامة بأحد هذه الأحياء سبباً لهذه الدقة لأن وصف الكاتب لها ليس وصفاً خارجياً وإنما هو وصف يغوص في الأعماق يكشف أدق التفاصيل وصف إنسان خبير بكل تفاصيل المكان وجزئياته. لغة الرواية ومستوياتها: يعشق محمد عطية اللغة عشقاً يتجسد في تعامله معها تعامل الحرفي الخبير بحرفته، فاللغة وسيلة التعبير المترجمة للمشاعر والأفكار والرؤى لذا استطاع تنويعها بحسب مقتضيات أحداث روايته، فتارة نراها لغة تسجيلية وتارة تغلفها الشاعرية وتارة تسيطر الفصحى وتارة تظهر العامية وخاصة في الحوار بين الأشخاص فالفصحى لغة الراوى والعامية لغة الشخصيات وبرغم ما قد يفسر به استخدام العامية في الحوار بأنه أقرب إلى الواقعية أو أدق في التعبير عن الشخصيات فقناعتي أن الفصحى كفيلة بأداء كل ما يمكن أن يرد على ذهن الكاتب حال إبداعه لعمله الروائي ولا أجد مبرراً مقبولاً – من وجهة نظري – لإقحام العامية على لغة الرواية. لكنى أعود لأقول إن من أبرز السمات المميزة للغة الرواية بعيداً عن العامية هذه الشاعرية الواضحة في معظم المشاهد والأحداث، والشاعرية خاصية لغوية في الإبداع تكشف عن مدى قدرة المبدع على التعامل مع اللغة تعاملاً إنتاجياً يولد اللغة من اللغة باللغة، الشاعرية ليست ترفاً ولا حشواً ولا زينة بل هي إحدى وظائف اللغة الأدبية وليست خاصة بنوع واحد من أنواع الخطاب كالشعر أو الأدب مثلاً إذ كل ممارسة للغة خارج الشعر يمكنها أن توجد هذه الوظيفة الشعرية، وترتبط الشعرية بمدى قدرة الكاتب على التجريب في مجال اللغة، تجريب يتجاوز المألوف والمعتاد بإعطاء الألفاظ حمولات دلالية جديدة موحية تعكس الأثر الذي كان وراء العمل ذلك أن النص هو في آن واحد – تجسد لغوي لكائن – وانفتاح خارج اللغة على كينونة في الغياب، أي أنه هو بذاته علاقة جدلية بين الحضور والغياب، لا في كلية فحسب بل على مستوى مكوناته اللغوية أيضاً. ولعل من أكثر أجزاء الرواية شعرية وصف الكاتب للحلم المتكرر الذي تراه مستورة، وتلك المقطفات الشعرية التي يذكرها من آن لآخر داخل سرده مثل تلك المقطوعة التي وردت على لسان حلمي: لأني أحبك.. فلن أقتحم – مهما كان – الجدار لأني أحبك.. بيــــــت قــديـــــــم.. بعيـــــــد المـــــــزار لأني بحبك.. مــــولـــود كـــئيـــب..ينطق بالحـــــب وتفوح من فمه الأشعار لأني بعشقك حمــــــل ثقيل.. ينـــــوء بالصمـــــت وتلفظه حانات الانتظار.. ومثله حلم بطة ص93 ، وغيره ورغم هذه البراعة اللغوية إلا إننا قد نجد بعض العبارات التي يختل ميزان فصاحتها بشكل لا نجده في غيرها مثل قوله: شعرت بتلاشي شبح سامح ص74 فهذا النمط في التعبير يعد من عيوب الفصاحة لتوالى الحروف المكررة والمتقاربة المخارج، لكن الحق يقال إن هذه الجمل نادرة في روايتنا ولا نجد لها أمثلة كثيرة لتمكن محمد عطية من لغته وقدرته الفائقة على توظيفها توظيفاً يخدم فنه السردي ويخرجه في أبهى صورة. وأخيراً فإن رواية دوامات الغياب لمحمد عطية رواية تستحق القراءة لما تثيره من ذهن القارئ من أفكار شتى، وتفتح آفاقاً رحبة من الإمتاع الفني والإشباع الفكري، وهذه قراءة موجزة لبعض ملامحها وخيوطها الفنية، قد تتفق أو تختلف مع غيرها من القراءات ودائماً يبقى النص الجيد مثيراً للجدل ومغرياً بقراءات شتى. الهامش 1) بناء الرواية ، د/سيزا قاسم ، مهرجان القراءة للجميع ص160 ، 161 2) تقنيات السرد الروائي ، يمنى العبد /دار الفارابي 1990 ق ج -101بتصرف 3) العنوان وسيموطيقا الاتصال الأدبي /د.محمد فكرى الجزار – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2006 ص 54 ، 55 4) الإبداع في الفن الأدبي ، عمر بو شموخة ، وزارة الثقافة ، الجمهورية الجزائرية 5) اسكندرونة أورنين هاتف في التجريب الروائي والحرية د/منصف الوهابي تونس ضمن كتاب السرد وأسئلة الكينونة /بحوث مؤتمر عمان الأول للسرد جمع د/حاتم بن التهامي الفطاسي كتاب دبي الثقافية 77 ص 176 6) في الشعرية د/كمال أبو ديب مؤسسة الأبحاث العربية بلبنان ص19 7) في شعرية الرواية طراد الكبيسي – مجلة عمان – ع90 الأردن ص 8) في الرواية والقصة والمسرح (قراءة في المكونات الفنية والجمالية السردية)د/محمد تحريش وزارة الثقافة الجزائرية ص136 المكان الروائى والمناخات المهمشة فى رواية \”دوامات الغياب\” للكاتب محمد عطية محمود بقلم شوقى بدر يوسف تكمن فى المناخات المهمشّة بقايا من الحياة المتدنية تراوح ذاتها فى بؤر المكان والزمان الحاضر بقوة فى النص الروائى الحديث، وتستطلع هذه المناخات ما بقى لها من أنفاس تتواصل فيه الشخصيات الساكنة قدرها ومكان تواجدها مع همومها وأوجاعها وآلامها، ومع تفاعل وتعايش ذاتها مع الآخرين. ربما كانت هذه المناخات بما تحمله من طبيعة خاصة وشخصيات متدنيّة فى ممارسات وأفعال، وصراعات متباينة، وردود أفعال محددة حول طبيعة ما تعيشه وتعايشه فى فضاءاتها الخاصة، وما تحويه هذه الفضاءات من بشر وطبائع وجبلات مختلفة هى تجسيد حى لبؤر واقعية تحوى شخوصا تعيش الواقع وتتفاعل معه كل حسب طبيعته وهواه ورؤيته الخاصة وقدره الذى قدّر له أن ينتظره، بعضها يدمغه المكان بطبيعته الخاصة ويحوّله إلى جزء فاعل فيه يتعايش فيه مع روح المكان بنفس ممارسات تشكلاته، وبعضها لا زال على بقية من طبيعته الأولى التى لم يشوبها شائبة يتعايش بروحه الذاتية التى جبل عليها منذ نشأته الأولى، لذا كانت فضاءات النص الروائى المكانية بما تحويه من شخوص وممارسات وعلامات تحيل إليه، هى إحدى مداخله المهمة التى يتم النظر من خلالها إلى أبعاد النص القائم على هذه التيمة، وعلى ما يحتويه من قضايا وإشكاليات والوقوف على ما به من جماليات نصية وأبعاد رؤيوية يحتويها الواقع الروائى فى مدارات عدة على الرغم مما يحتويه الإطار الجغرافى والنفسى والاجتماعى للنص الروائى القائم على هذه الشاكلة بشخوصه وأحداثه وأبعاد مراميه، ولا شك أن سيكولوجية المكان بما يحويه من أطر وأنساق يجسدها مصطلح أدبية المكان، والملامح الجمالية النابعة من جغرافيته هى التى تحيل وجوده إلى بؤرة قد يتعايش فيها الإنسان مفارقة ظاهرة مع ذاته ومع الآخرين، ذلك أن \”: علينا فى الواقع، أن نوجد وسائط لا حصر لها بين الواقع والرمز إذا أردنا أن نعطى الأشياء كل ما توحى به من حركة، ولعلنا نحيل فى هذا المسار رؤية الكاتبة الكلاسيكية جورج صاند فى رؤيتها للحياة وهى جالسة بجوار طريق رملى أصفر. حين كتبت عن المكان الذى رأت فيه رؤية جمالية خاصة لحياة نشطة فكتبت تقول: \” أى شئ أجمل من الطريق؟ إنها صورة ورمز لحياة نشطة متنوعة\”. (1)، لذا نجد أن المكان فى الرواية لها سماته الخاصة وأبعاده القائمة على رؤية قد تكون لها جمالياتها الخاصة وقد تكون لها أبعد من ذلك حتى لو كان القبح هو أحد سمات المكان بأحواله وشخوصه وممارسات ساكنيه. من هذه الروايات التى تحتوى المكان وفضاءاته المتدنية والمهمشة بامتياز رواية \”دوامات الغياب\” للكاتب محمد عطية محمود وهى الرواية الأولى له، والفائزة هذا العام بجائزة اتحاد الكتّاب فى مجال الرواية. جاءت الرواية بعد ثلاث مجموعات قصصية هم \”على حافة الحلم\”، و\”وخز الأمانى\”، و\”فى انتظار القادم\”، اشتغل الكاتب فيها على نفس التيمة القائمة على المناخات المهمشة فى المكان السكندرى، وبالتحديد على نفس المنطقة التى اشتغل عليها العديد من الكتّاب السكندريين أمثال إدوار الخراط، ومحمد الصاوى، وإبراهيم عبد المجيد، ومصطفى نصر وغيرهم من الكتّاب والروائيين الذين وجدوا فى المدينة محطات سردية وبؤر روائية متنوعة يتبارون فى ردف أحوالها وإشكاليات قضاياها وناسها وطبيعة تشكلها خاصة تلك المناطق المتدنية فى طبيعتها والمهمشة فى أحوالها، والمتابينة فيما تضمه من شخصيات على نفس الشاكلة. والمنطقة التى اشتغل عليها هؤلاء الكتاب هى منطقة كرموز وغربال والبياصة وهى المناطق المجاورة لمنطقة عامود السوارى، ومنطقة الساعة التى تضم فى جنباتها المكان الذى اشتغل عليه الكاتب ليقدم من خلاله روايته، هذا المكان هو منطقة (الكرنتينة) الشهيرة التى تحتوى على مخازن وشون وشركات القطن ومخازن شركات المواد الغذائية وغيرها من المهن التى تبصم المكان ببصمتها الاقتصادية الخاصة. وهى منطقة يقال عنها أنها – أثناء الحرب العالمية الثانية – كانت فى الأصل مكان إسطبلات لتجميع الخيل التى كانوا يجلبون لها مخدر الكوكايين حتى تنشط وتكتمل عافيتها وتستطيع أن تشارك بقوة فى المجهود الحربى للحلفاء، وبمرور الوقت تحولت المنطقة إلى مكان يحجز فيه الجنود المصابين بأمراض مستعصية والميئوس من علاجهم، ثم استخدمت كمنطقة عزل للمرضى المصابين بأمراض وبائية ويحتاجون لفترة كافية حتى يتم شفاؤهم، ثم \”: تحوّلت إلى عشش من الصفيح، يقطنها اللصوص وقطاع الطرق، إلى جانب أصحاب الحرف البالية، ومن لا مأوى له، وتخللتها أوكار لتعطى المخدرات وبيعها، وتجارة الجسد\”. (2)، فى هذا المكان تبرز الشونة التى تعمل فيها شخصيات الرواية، وهى منطقة تجميع لثمار الفاكهة والخضروات لتجهيزها للبيع والتصدير، يعمل فيها مجموعة من العمال قاطنى المكان، وتدور فيها وقائع الرواية وأحداثها. فى هذا المكان المحدد تبدو المناخات المهمشة هى البعد السائد والحاوى لعالم روائى يستمد دقائقه من ذات المكان ومن طبيعة الشخصيات العائشة حقيقته، وحقيقة ما يحدث فيه من مفارقات للواقع، وممارسات ووقائع وتأزمات، وأحداث تسمه بالتهميش والتدنى فى المعيشة والعلاقات. هو يحمل بطولة النص فى جنباته ووقائعه وأحداثه. أحداثه هى الحاضرة بقوة من خلال البعد النفسى عند الشخصيات والبعد الهندسى والجغرافى للمكان. ولا شك أن المكان المغلق داخل الشونة الذى تتم فيه معظم أحداث الرواية بعلاقات من يعملون فيه، ودقائق تفاعلهم مع بعضهم البعض ومع ذواتهم، والمفارقة الروائية فى تداخل علاقاتهم وتقاطعها سواء ما كانت حول مجريات العمل والصراعات والصدامات الدائرة فيه وحوله. أو العلاقات العاطفية الناشئة بين شبابه وشباته من العمال والموظفين، وما يدور فى دهاليزها من أحوال وممارسات ووقائع. والعلاقات الحسية بين الرجل والمرأة والدائرة فى أماكن مغلقة معروفة داخل الشونة خاصة وأن معظم من يعمل فى الشونة من نساء المنطقة. كل هذه التفاعلات تبصم المكان الروائى فى النص ببصمة خاصة فى التناول، وتسمه بسمات التدنى فى بيئته الاجتماعية وتجعل من المكان هو البطل فى صميم النص بلا منازع. الشخصيات والحالة الإنسانية يكتب الروائى عمله لكشف حالة إنسانية خارج حدود المألوف وصوغ تجربة تكون فيها الشخصية الروائية هى وحدها القادرة على بناء الحدث وتطوير خطابه. وتأويلات الشخصية تكمن فى دقائق وعلامات تشكلها كما يصوغها الكاتب، والكائن الروائى القادم من عمق المتخيّل إلى بؤرة الواقع هو نفسه القادم من بؤرة الواقع إلى عمق المتخيّل ليكون بعد ذلك الشخص الفاعل للأحداث داخل النص بطبيعته وكينونته التى تكون غالبا متحلقّة حول آفاق الكاتب وعالمه الخاص. \”: ولكن السؤال الذى يطرح نفسه هو لماذا التأكيد على أن الشخصيات الروائية هى شخصيات على الورق أو هى شخصيات غير حقيقية، أوليس الأمر غاية فى البداهة، وأن الأحداث نفسها غير حقيقية وأن لا شئ حقيقى فى الرواية برمتها\”. (3) لذا تبدو الشخصيات بتكوينها وعلامات تشكلها فى رواية \”دوامات الغياب\” جزءا مهما فى المكان هى المتواجدة فيه والفاعله فى طبيعته والمتعايشة مع زمنه ودقائق مكوناته هى تنبت فى تربة أعماق النص، وتخرج إلى الوجود فى عملية مخاض يبثه الكاتب فى تجاويف النص الروائى ليحدد من خلاله رؤيته تجاه الواقع وما يعتريه من تغيرات وتحولات وممارسات، كما يستطرد فى وصف الشخصية، من أين جاءت وظروف تكوينها وطبيعة ما يكتنف حياتها وعملها من دقائق وممارسات وعلامات وإشارات تشير إلى وصفها الجسدى وتاريخها الاجتماعى، بدءا من شخصية (مستورة) رئيسة عمال التعبئة فى الشونة والشخصية المحورية فى الرواية و(عسرانة) زميلتها المقربة إلى قلبها، و(سنية البربرية) وعلاقتها الجنسية برشدى السايح داخل الشونة، وسميكة الصياد الذى فشل فى مهنة الصيد لسمنته المفرطة فترك قاربيه لأخيه يعمل عليهما والتحق للعمل بالشونة كحارس، والحارس فرج الذى يطارد مستورة فى الرايحة والجاية ولا تسلم النساء من لسانه لشبقيته المعروفة، وصقر كبير الخفراء العجوز الذى اتهم مرة فى واقعة سرقة بالشونة وتم تحويله ليحرس الباب المغلق من الشونة، وأمل الموظفة بالشونة وأبنة أحد صانعى العطور فى الإسكندرية بطيفها الشفيف ووجهها الأبيض فى نقائها وبهائها والذى يتعارض مع جفاف الشونة واهتمام زميليها مصطفى وحلمى بها، ومحاولة كل منهما لفت أنظارها إليه، إلا أنها كانت فى عالم آخر من العاطفة تحاول أن تبحث لنفسها عن جدار عاطفى قوى تستند عليه فى الحياة. ربما كان هانى جارهم القديم. وخليل الذى شاع فى الشونة عن افتتانه بزميلته لوزة وهياجه العصبى المفاجئ والمستمر داخل جدران الشونة، واصطدامه بزملائه حول أحاديثه الملتبسة لما يراه ويتخيله داخل الشونة. وموفق موظف الشونة المنوط به تحرير سراكى عمال الشونة، والذين يطلقون عليه موفق المقص، للخصومات التى يقوم بها كثيرا للعمال. وعلاقته الشائكة الصامتة بزملائه والتى كثيرا ما تشعره بالتضاؤل والإساءة إلى مشاعره. حتى سرحان ماسح الأحذية الذى يلمع أحذية موظفى الشونة والقابع بصندوقه بمحاذاة سور الأدارة والذى يتواجد فى أكثر من مكان من أمكنة الكرنتينة لتلميع أحذية قاطنيها والحاضر من الصعيد الجوانى مخلفا وراءه ثأرا، لا يريد أن يقتص له. جميع هذه الشخصيات الكامنة فى جنبات الشونة والتى تتجمع مجريات أحوالها وطبائعها وممارساتها الاجتماعية والحسية والنفسية لتقيم دعائم مجريات الرواية والتى تطبع المكان وتبصمه بطبائعها ووقائع أحوالها وتحدد ملامح بيئتها. كذلك كانت شخصية كامل الديروطى المقاول الذى صعد السلم وحقق ثروة فى أعمال متصلة بالميناء والتجارة والذى عمل فى البداية حمالا فى الشونة ثم ما لبث أن تركها وبدأ نجمه فى الصعود فى أعمال أخرى فى مجال السمسرة ثم كومندانا فى بعض الأعمال، ثم شارك فى أعمال مقاولات داخل الشونة من الباطن قبل الانفراد بها وحده. لذا كانت عودته مرة ثانية إلى المكان يثير دهشة فرج وباقى العاملين بالشونة ويحاول كل منهم أن يعرف سبب هذه الزيارة المفاجئة. أثار خبر قدوم كامل الديروطى هواجس مستورة لعلاقة قديمة كانت قائمة، أثمرت عن سرها الدفين (صبرى) الذى يمثل دوامة حياتها الغائبة فى تجنيده فى المنطقة الغربية. كان حضور كامل الديروطى بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير فى نفس مستورة. فقد استدعت فى نفسها جرح قديم حاولت بشتى الطرق أن تخبئه لكنها لم تستطع. فقد كان حضوره المفاجئ إلى الشونة وكأنه ألقم البركة بحجر فحركت الراكد فيه، وقد استخدم الكاتب الفلاش باك فى استعادة ما حدث فى الزمن القديم بين مستورة وكامل الديروطى فى هذا المشهد، وهو ما تكرر استخدامه فى العديد من المواقف التى عايشتها مستورة حيث تعود الذاكرة بها إلى الوراء لاستجلاء حقائق كثيرة حدثت فى حياتها، وتدفع هى ثمنها الآن من حياتها الآنية فى دوامات الوجع والترقب والقلق التى تعايشها داخل الشونة وخارجه. النص وأحواله تتحرك الرواية فى أماكن متعددة من الذاكرة والمخيلة وتبدأ فى استهلالاتها الأولية من خلال المعايشة الأولية للواقع عندما تستعيد (مستورة) إحدى الشخصيات المحورية فى الرواية دوامات حياتها والغيابات التى لحقت بها وبإحبائها، وتتذكر واقعة زواجها المتواضع من عبده المستكين ببشرته السمراء، وملامحه المستسلمة، وما تواجهه داخل الشونة مع العاملات التى تشرف على أعمالهن المتواضعة فى النظافة وترتيب الثمار فى صناديق العمل، كذلك من مضايقات بعض زملائها، وهى أحوال صاحبت تدفق الحكايات القديمة على خواطرها وانعكاسات ما يحدث داخل الشونة على حياتها وحياة من تعرفهم من قاطنى المكان، فقد كانت تقوم بعملها داخل الشونة فى مهارة فائقة اكتسبتها من خبرة طويلة فى هذا المجال مع النسوة اللائى يعملن معها فى قسم التعبئة. كانت مستورة ونلاحظ دلالة الأسم على صاحبته. قد فوجئت بعودة بطة، أبنة أخيها التى تركها لها هى وأمها بعد انفصلا عن بعضهما ورحلا بعيدا، تعود بطة بعد غياب طويل أقلق مضاجع عمتها وجعلها تعيش لحظات متضاربة من مشاعر الخوف والقلق والتوتر :\” اختلط الحزن الجارف لديها، بمسحة فرح، حاولت أن تستجمعها بداخلها، كى تزيح بها جزءا مما اعتور كيانها المشتت، لكنها سرعان ما غلبتها رياح المواجهة مع (البنت) حتما ستكون عنيفة\”. (4) كذلك كانت مضايقات بعض الزملاء ثقلاء الظل من عمال الشونة وحراسها أمثال فرج الذى لا حديث له إلا عن نساء الشونة وما يفعلنه فيها ومحاولات فرض نفسه عليهن، وتصريحه الدائم على ما يتم فيها من علاقات شائنة مع موظفيها ورؤسائهم، كذلك \”سميكة\” الذى ما يفتئ يلقى كلماته شبه المنظومة على مسمع ومرأى من الجميع، حين يرى أن الموقف يحتاج إلى الدندنة والتعليق الفكه المطلوب لهذا الموقف هى المحرك لكثير مما يعتمل داخلها من تأزمات ووجع وقلق نفسى تحاول بشتى الطرق أن تستقوى بشخصيتها وأن تقف أمام هذه التيارات المعاكسة فى محيط الشونة. الشكل وبناء النص استخدم الكاتب أسلوب التقطيع السينمائى فى الانتقال بالمشاهد تجاه أمكنة ومشاهد وأحداث ومواقف وشخصيات فاعلة يسرد تاريخها الذاتى فى استطرادات ووقفات دالة على مكونات الشخصية ومحددات طبيعتها وجذور حلولها فى المكان، وما يتفاعل مع همومها وأوجاعها وآلامها من تأزمات نجد ذلك متجذرا أحيانا فى نفسها وناتجا عن حياتها، كما أستخدم أيضا أسلوب السرد المباشر، والمونولوج الداخلى فى تداعى خواطر وهواجس الشخصية كمعادل موضوعى لما يدور داخل النفس من تأزمات وطرح ما يعتمل داخل العقل الباطن واللاوعى والتماهى فى أحداث الماضى وهو ما يطرح كثيرا من أحداث النفس مع ذاتها، ويستدعى ما يعتمل داخلها من منغصات وتأزمات خاصة نتيجة لما حدث معها فى يوم من الأيام والإحساس بعقدة الذنب الدائمة المستمرة. والمونولوج الداخلى فى النص الروائى هو بديل الحلم يلجأ إليه الكاتب لتتحدث الشخصية لغة أخرى وتغوص داخل نفسها كنوع من التطهير وتعميق الموقف. وقد وردت المونولوجات الداخلية المتناثرة فى نسيج النص مكتوبة على نسق البنط المائل، حتى تتم المفارقة الشكلية فى الكتابة بين السرد القائم على الحكى والسرد المباشر وبين تداعى خواطر الشخصيات والمستخدمة من داخل هواجس الشخصية، فى تجسيد هواجسها وتداعى خواطر ذاتها فى التعبير عن مكنون الذات وبث لواعج النفس وقد استخدمه الكاتب فى أكثر من موضع ليجسد ويبرز من خلاله ذات الشخصية من الداخل وما يدور فى هواجسها وخلجاتها من أمور وتوجهات ذاتية تداعب خيالها، وتؤرق حياتها، وتهجس من داخلها تداعيات خواطرها، ففى أول مونولوج داخلى فى النص تتداعى خواطر وصورة (مستورة) المرأة الفاعلة والشخصية الرئيسية المحركة لمجريات بعض الأحداث داخل النص، حول تمزق فورة جسدها وما عايشه فى هذا المكان منذ أن حلت به \”: تتداعى لك صورتك فى تلك الأيام التى هبطت فيها أرض الشونة بحدودها القديمة الشائهة، كيانا مكدودا.. تمزقه فورة جسد تتوارى خلف هيئة مهملة، وملامح يعتريها الفتور، وسط أترابك من العاملات.. تزيحين بمكنستك العرجون ما يتركنه خلف عراجينهن، بينما تعرج نظراتك المبهوتة خلف حدود المكان المتطلعة. لم تكونى تدرين أنك كنت تكنسين، مع مخلفات الشونة، حياتك الماضية، التى لن تعودى إليها إلا فى أحلامك المبتورة عند حدود الفزع، وهيجان الصدر، وجيشان الهموم، وانفراط الدمعات الهاربات\”.(ص7)، وكما يتبدى المونولوج الداخلى بقوة فى مشاعر مستورة وهواجسها وتداعيات خواطرها فى المواقف التى يتحرك فيها قلبها وينهشها الحرمان مما كانت تأمله وتحاول أن تصل إليه خاصة عند عودة كامل الديروطى إلى الشونة فى زيارته الأخيرة وتسريب الخبر بين العمال عن طريق فرج وحين يصل إليها خبر عودة كامل الديروطى إلى المكان تتحرك داخلها عاطفة قديمة باءت بالفشل لكنها تركت فى نفسها ندوبا وعلامات ومعالم بارزة وأسرارا خاصة لن تنمحى، لذا جاء المونولوج الداخلى ليجسد الهاجس الكبير فى نفسها والمتمثل فى دوامة الغياب القوية فى نفسها وهى غياب الأبن (صبرى) ثم هذه العودة المفاجئة لكامل الديروطى إلى الشونة ما أثار فى نفسها لواعج القلق والترقب، وأيقظ فى نفسها مشاعر دفينة قديمة \”: لم تشعرى إلا بفيضان يغمرك.. يقلب الأرض من تحت قدميك.. يقتلعك من جذورك الواهنة؛ فيلتهمك.. ويعتصرك اعتصارا… تقلّبين صورة صغيرة لـ \”صبرى\” بين كفيك.. تضعينها بين ضفتى صدرك الهائج بتحنان وخوف.. تلمين عليها شق صدر جلبابك، وتحكمين أزراره، تتحسين بطنك؛ فتكتوين بحرقة، وألم مباغت بأحشائك مثل مخاض لم تشعرى به من قبل، ثم تزميّن عقدة صرتك مرة أخرى، وتغلقين الصندوق\”. (5) كذلك عندما فاجآتها أخبار حرب الكويت وابنها صبرى ضمن من يحاربون هناك، تعود بها الذاكرة إلى أيام الحرب ويتداعى الزمن القديم فى وقفات محددة حول حربى النكسة والعبور وصفارات الإنذار والأنوار الباهتة المحبوسة خلف زجاج الشبابيك المكتسسية باللون الأزرق، والمخابئ التى كانوا يلوذون بها فى شارع المكس والطابية والورديان، ويستدعى الكاتب أحلام اليقظة المتمثلة فى المونولوج الداخلى والذى يقول عنها فرويد إنها \”الاستيهام بحصر المعنى\”. \”: فى غروب حجرتك تتكوّمين على حافة فراشك.. تستولى عليك سنة من الغفلة.. تتراءى لك حمامتك البيضاء. وقد صارت رمادية.. تحاول التحليق مكبلة القدمين، ترتفع بجسدها، تشعرين بثقله، ثم تهبط.. ترتطم بزاوية الحجرة المظلمة، وقد خلت الزاوية من شبح جسد أمك الواهن، تبدو خالتك مكتوفة الأيدى، بالزاوية الأخرى، تمصمص شفتيها.. تنظر إلى عش طائر خال، ببروز قرب السقف الذى ينخفض رويدا.. ثم يعود للإرتفاع. تحاول يدك أن تمسك بها.. لكن الركن يتباعد، وما تلبث أن تصير كشبح يتباعد بينما تهوى يد أخرى؛ فتطال رقبتها بنصل حاد تحسين به، ولا ترينه.. تمتد يد متولى دون ظهوره.. تربط جرحا غادرا بالرقبة، وقد تلطخت الحمامة بالدم، وغرقت فى ظلام الغرفة\”.(6) كذلك استخدم الكاتب أيضا اسلوب الوقفات السردية منذ الاستهلال الأولى للنص، وفيها يقوم الكاتب بوصف الأشياء التى ينطوى عليها عالم الرواية كوصف المكان بتفاصيل دقيقة والعروج إلى الشخصيات بكل تفاصيل حياتها وطبيعة ما تحتويه نفسها من أوصاف وطبائع خاصة، ومزية الوقفة أنها عدول بالسرد عن الزمن وطرح رؤية تساعد المتلقى على معايشة الواقع بكل ما فيه من وصف وأحداث ومواقف قديمة وآنية، حيث تبرز أبعاد الموقف تماما خاصة عندما يستطرد الكاتب فى الوصف أو تجسيد الحدث وبث دقائق مجرياته وهو ما بثه الكاتب فى مواقف عديدة داخل ما يحدث فى الشونة من ممارسات شائهة، كذلك ما يحدث خارجها خاصة عندما تطلب عرض مواقف الشخصيات مع ذاتها وحيال بعضها البعض، خاصة مشهد انتظار مستورة وبطة لخلف عند شجرة كبيرة فى مواجهة سيدى القبارى، ثم انصرافهما بعد أن يئسا من حضوره، فى هذا المشهد يتبّع الكاتب وقفات بعينها يحاول من خلالها طرح تفاصيل المكان بمساجده وأشجاره وكوبرى القبارى الذى يقطع الطريق وسينما الهلال المشهورة فى القبارى، وهى أماكن لها حضورها الخاص فى هذا المهشد المرتبط بانتظار حل مشكلة بطة التى هى فى الحقيقة وقفة مهمة لما يفتعل داخل نفس مستورة الشخصية الرئيسة فى الرواية. العتبات النصية فى العتبات الأولى للنص تبدو الرؤية غائمة ومضمرة الجوانب، إلا من هذه العلامات والإشارات والأيقونات والاستهلالات النصية التى تحاول إضاءة دلالات ما يرمى إليه النص من أبعاد وتبئير ورؤية لزاوية ما يحويه المكان وما تعايشه الشخصيات من تأزماتها الذاتية. فالعنوان الذى بدأ به النص والمكون من مفردتين هما \” دوامات الغياب\” والذى جاء على نسق لغوى مكون من مضاف ومضاف إليه يحمل معنى مجازيا ملتبس الرؤية والدلالة يعنى أن للغياب له دواماته وعذاباته وجوانبه الخفية المتأصلة داخل النفس وقد قسمها الكاتب بعد ذلك فى ثلاثة أقسام داخل النص صدر كل منها بمقطع صغير بدأها بالدوامة الأولى صدّر فى بدايتها مقطعا صغيرا مقتطع من مقولة للكاتب الجنوب الأفريقى جون ماكسويل كويتزى حول آلام الإنسان وتعاسته وطبيعتها الخاصة يقول فيها \”: إلا أن التعاسة ليست حمّاما يتطهر فيه الإنسان بل هى على العكس، بركة مياه راكدة والإنسان لا يخرج من كل نوبة جديدة أكثر ذكاء وقوة، بل أكثر غباء وضعفا\”. (ص5) وتجسد هذه الدوامة فى طياتها بعدا نفسيا واجتماعيا تعايشه (مستورة) حول الغياب الذى تعانيه فى نفسها مع ذاتها وما كانت ترومه فى حياتها من عاطفة ومعيشة وجنس ومال، فى غياب بطة الفتاة التى تربت فى كنفها وتركتها أمها وابيها قطعة لحمة حمراء قامت مستورة بتربيتها والأشراف عليها حتى صارت قطعة منها وأخت لأبنائها، هربت بطة مع خلف ليلة الفرح المقام فى بيت (عسرانة) وأثناء رقص مستورة، وتعاد قصة مستورة وكامل الديروطى مع بطة وخلف، وكأن القصتان متشابهتان، فقد عانت كل من مستورة وبطة من هول الغياب ودوماته، ففى قصة مستورة يغيب كامل الديروطى، ونفس الشئ يحدث مع بطة أبنة أخيها حين يتركها خلف ويهرب للعمل فى ليبيا مخلفا ورائه نفس الأثر الذى تركه كامل الديروطى فى أحشاء مستورة، وتتكرر مأساة العمة فى شخص أبنة أخيها بطة بنفس الأسلوب وهنا تكمن مفارقة الواقع فى أحداث الرواية عندما تكرر المأساة مرتان بنفس الأسلوب وفى نفس العائلة. المفارقة والنص كمما تبدو المفارقة بارزة أيضا فى أنحاء النص بين ما يقع على مستوى الواقع وبين ما تجسده الحالة النفسية والميتافزيقية للشخصيات. كذلك تبرز من خلال تعدد الأزمنة مع معايشة كل شخصية على حدة فى تاريخها الاجتماعى الخاص، ومزية هذه السمات أن الكاتب يقوم بتعديل مسار السرد من موقف إلى آخر ومن شخصية إلى أخرى ليعيد ترتيب الأحداث مما يخالف توقعات القارئ الذى يحس لدى كل توقّف للراوى وتغيير الاتجاه بتوق شديد لمعرفة الجديد واستكمال مراحل التحوّل فى الموقف والمشهد ليعيد ترتيبه فى ذهنية التلقى وإدراكه. ولعل الإحساس الذى يعتمل فى نفس مستورة كلما تذكرت علاقتها القديمة بكامل الديروطى، وتكرار هذه العلاقة بين بطة وخلف، تجعل المفارقة بينهما شبه متكاملة فنفس المأزق التى عاشته مستورة وهى فتاة صغيرة يتكرر مع بطة، الفرق بين الموقفين أن مستورة وجدت من خالتها خير سند ومعين فى مشكلتها التى حدثت وكانت الظروف هى المسئولة عنها، فعندما غاب عنها كامل عندما سافر إلى بلده وعاد مرة أخرى وجدها قد تزوجت من عبده سائق الكارو، وقد عالجت خالتها هذا الموقف بتزويجها من هذا الرجل المستكين حتى تتستر على مشكلة أبنة أختها حين اكتشفت أن فعلتها، بينما تحاول مستورة أن تعثر على خلف حتى تعالج الموقف بطريقة موضوعية بالزواج الشرعى. وتكتشف بطة أن خلف كان يتلاعب بها وأنه قد دس سرحان ماسح الأحذية عند بوابة الشونة حتى ينقل إليه الأخبار وحتى يطمأن وهو يعد عدته للسفر إلى ليبيا للعمل هناك، ويترك فريسته نهبا للأقدار. وتتزامن هذه المفارقة مع مفارقة أخرى تنتظر مستورة فى نهاية النص حينما تقع فى دوامة كبرى للغياب بعودة صبرى جثة هامدة من حرب الكويت. وينتهى النص بنفس الاستهلال اللغوى الأولى الذى بدأ به الكاتب نصه الروائى حين \”: تسللت أشعة الشمس تخترق حجب الضباب، الفارد جناحيه الكثيفين على ربوع \”الشونة\” تستقبل بوادر الناقلات المخترقة صمت الصباح المتحفز، بعوادمها الخانقة، المنطلقة من ممراتها المشتعلة برائحة ثمار الموالح، مختلطة برائحة صناديقها الكرتونية، الموشومة جوانبها بقرص الشمس البرتقالى المتوهج… تنهب العجلات أرض الساحة الخالية إلا من بعض النسوة.. تنكسن أنطرافها حول حواف (الجمالونات)، المرتفعة قيد شبر عن مستوى الأرض، بعد أن هيأن الممرات الداخلية مبكرا\”. (7) مع مفارقة لغوية بسيطة لها دلالتها هى أن المكان بدلا من أن يستقبل الناقلات المخترقة صمت الصباح المتحفز، جاءت فى نهاية النص بأن المكان يحتضن الناقلات المخترقة صمت الصباح المتحفز، وكأنه يحنو عليها ويواسيها فيما يحدث على أرض الواقع من مواقف مأسوية أنتهت بها الرواية وغلفت المكان بدوامات الغياب التى سحبت الجميع إلى بؤرة المأساة والوجع والألم الذى لف الجميع بجوانبه وعبرت عن المقطع الأخير الذى انتهت به الرواية والذى هو نفس المقطع الذى استهل به الكاتب روايته. لغة النص فى لغة النص ثمة تناصات لغوية منحوتة من مفردات قادمة من انعكاسات المشهد الروائى فى الإسكندرية على كتابات الكاتب ربما ممن كان الكاتب فى تواصل ذاتى وإبداعى معهم مثال إدوار الخراط بلغته المجازية الحسية، والروائى الراحل أحمد محمد حميدة فى لغته المنحوتة من قراءة الواقع، والقاص محمد حافظ رجب بسيريالية لغته وهوام مفرداته، كما أن هناك ثمة أبعاد لغوية أخرى قادمة من قراءات الكاتب ومخزونه الثقافى الخاص تضافرت جميعها وانعكست بصورة أو بأخرى على المسار اللغوى فى نسيج النص، أبعاد منحوتة من صخرة مفردات الواقع المهمش النابعة من أمكنة وفضاءات يلفها المكان السكندرى فى منطقة الكرنتينة ويعكسها جو ومناخ الشونة الاقتصادى النهم فى حواسه وصراعاته كما استخدم أيضا بعض من المأثورات الشعبية لمراوحة دالات تطل من داخل النص لها وقع المكان والزمان والموقف والحالة مثال هذه الأراجيز الشعبية وبعض رباعيات شعراء العامية المصرية وظفت فى مواضع من النص لخدمة المعنى والدلالة والتأويل. الإحالات 01 جماليات المكان، غاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1984 ص41 02 دوامات الغياب (رواية)، محمد عطية محمود، ص 22 03 الشخصية الروائية فى الشعرية المعاصرة، رمزى حسن، ج الصباح، بغداد، ع 2588، 17/7/2012 ص 11 04 الرواية ص 22 05 الرواية ص 80 06 الرواية ص 92 07 الرواية ( نفس الفقرة) فى البداية ص 6 وفى النهاية (ص136) قراءة في رواية \”دوامات الغياب \” لمحمد عطية محمود دينا نبيل عبد الرحمن – مصر \”في الصباح سوف تغادرين المأوى.. تتركين الشونة خلفك بما فيها.. سوف تستقلين ترام المكس الصفراء لتتأرجح بكِ، وتخترق شارع \”الأمان\” الطويل، وتلف بكِ حول صينية ترام الورديان، وتكملين بها إلى محطة كوبري النوبارية ثم تنزلين.. تترجلين المسافة حتى الجبّانة وتسعين لتخترقي الفواصل بين القبور، تبحثين عن قبر خالتك.. ثم تقرأين لها الفاتحة وتبثينها شكواكِ.. ثم تصلين إلى قبر متولي المحفوف بالزرع الأخضر.. سوف تمكثين تذرفين الدمع السخين.. وتعودين مرة أخرى إلى مقام \”سيدي القباري\” تتضرعين وتمسحين المقصورة وتلحين في الدعاء: \”ندرن عليّا يرجع صبري صاغ سليم ويجي الجامع بصواني الرز باللبن وتنحل عقدة البت الغلبانة.. وأقيد لك الشموع ، وأوزع الشربات على كل أحبابك .. / 133\” 1- عتبة العنوان : يعد عنوان النص البهو الذي يسمح لنا بالدخول إليه والخروج منه على حد قول \”بورخيس\”، وتكمن أهميته كونه العتبة الأولى التي يقابلها المتلقي وخلف مجموع علاقاته تُقام الصلة بينه وبين المضمون ومن ثم يُتعرّف على هوية النص. وعنوان (دوامات الغياب) ليس مجرد عنوان لرواية، وإنما هو مفتاح الرواية الرئيس على كافة المستويات اللغوي والنصي والبنائي؛ فعلى المستوى اللغوي يلحظ المتلقي أن العنوان يأتلف من شقين:(دوامات-الغياب) وكل منهما علامة سيميائية تكتنز أغلب الدلالات النصية في الرواية . فالدوامة تطرح بالدرجة الأولى الفضاء المائي حيث انعدام الاستقرار وتصارع التيارات؛ ومن ثمّ يمكن التعرف بيسر على فضاء النص المكاني لاسيما عند معرفة أنّ الكاتب سكندري، فالفضاء المكاني هو مدينة الإسكندرية ولكن يطرحها الكاتب هنا بشكل مغاير سنتكلم عنه لاحقا. حركة الدوامة دائرية في اتجاه عقارب الساعة مما يدلل على حركة الزمن الدائرية التي استفاد منها الكاتب في بنية نصه الحلزونية واعتماده على تقنيات الزمن كالاسترجاع والاستباق. والسحب نحو الأعماق والقاع سمة رئيسة في الدوامة وهو يرتبط بالمكان الروائي (قاع الإسكندرية) البعيد عن مركز المدينة ورونقها المعهود لتتمركز في الأماكن العشوائية والأعشاش، وعند تأمل العمق الدلالي لتلك الوحدة وما ترتبط به من مرجعية معرفية في متخيل المتلقي، نجد أن شكل القمع المخروطي الذي تنتهي إليه الدوامة يشبه الشكل المخروطي (للشونة) سواء أكانت قاعدتها إلى أعلى أو أسفل كما هو موضح بالشكل (1) فترتبط بمدلول السحب نحو القاع المتجسد في الدوامات التي تنسجها الشونة على المستوى النصي من ظروف حياتية عسيرة تدفع الشخوص إلى الدوران في مدار العمل والخضوع لقوانينها وعدم القدرة على الانفلات منها، كما مثلت لكثير من أهل الأرياف والصعيد والأعشاش \”الأماكن المهمشة \” عنصر ملاذٍ يجذبهم للعمل في مدارها وينتهي بهم الحال أن يكونوا أسرى لها لتسحبهم في دوامتها نحو القاع. ومن ناحية أخرى ترتبط علامة \”دوامات\” بالشق الآخر من العنوان وهو (الغياب) فهناك علاقة (سبب – نتيجة ) بين القاع والغياب على المستوى اللفظي، فمن يُسحب إلى القاع يغيب في الدوامة ويفتقد حضور المركز. أما على المستوى النصي، فتطرح تلك العلامة جدلية (الحضور والغياب) على المستويين المجازي والحقيقي. فالشخوص الحاضرة على المستوى الحقيقي غائبون مجازيا من خلال واقع معاناتهم كمهمشين \”غيّبتهم\” الفاقة، بينما الغياب الحقيقي لبعض الشخصيات جعلها حاضرة مجازيا في عقل الشخصية الرئيسة مثل صبري ومتولي. وعند إقامة العلاقة بين العلامتين للوصول إلى العمق الدلالي يتبين اقتران الدوامة الممثلة في الشونة بعنصر الغياب؛ فمن يبتعد عن الشونة حاضر مثل \”صبري\” بينما من يقترب من محيط الشونة غائب كبقية شخوص الرواية. كما تطرح بعداً دلالياً جديداً وهي موضوعة الحلقة المفرغة وتكرر الأجيال المتمثل في شخصيتي \”مستورة – بطة\”، وهو ما يشي به غلاف الرواية المتآلف من صورتين لامرأتين متشابهتين في الهيئة تغيب ملامحهما بينما إطار وجهيهما متماثل، مما يدلل على كون الشخصيتين وجهين لعملة واحدة، فبطة نسخة مكررة في الحاضر من ماضي مستورة، بينما تعيش مستورة في الحاضر الدور الذي عاشته خالتها في الماضي . 2- المعلومة الروائية والبنية السردية : تقع الرواية في 136 صفحة من القطع المتوسط، تنقسم إلى ثلاثة أجزاء وكل جزء إلى عدد من الفصول المرقمة عدا الأخير. يسيطر حدث رئيس على الرواية ينطلق من منطقة الشونة ليعود إليها مجدداً بشكل دائري يتكرر فيه مشهد العمل بأرض الشونة تحت شمسها الحارقة وحركة العاملات في رص المحاصيل في الصناديق وحمل العربات لها. يبدأ الحدث مع عودة بطة إلى عمتها \”مستورة \” بعد فرارها وزواجها العرفي من \”خلف\” الذي تركها. تحمل مستورة هم الفتاة وينطلقان للبحث عنه ليكتشفا أنه هرب إلى ليبيا تاركاً الفتاة تحمل نطفته، وتفكر مستورة في كيفية التخلص من الفضيحة ليعيد التاريخ نفسه وتتكرر قصة مستورة من جديد. وعلى مدى السرد لا تفتر مستورة تستحضر ذكرى ولدها \”صبري\” الذي ذهب ضمن الجيش لتحرير الكويت وتنتهي القصة على تلقيها أمر موته متأثراً بجراحه. وعلى مدار الخط السردي تتخلل الحدث الرئيس خطوط سردية حلزونية عند ظهور شخصية جديدة كما هو موضح في الشكل ( 2). وقد دفعت هذه البنية الحلزونية الكاتب إلى اعتماد عددٍ من تقنيات الحركة السردية؛ فيغلب على الترتيب الزمني تقنية الاسترجاع كما يظهر الاستباق قرب نهاية الرواية. أنواع الاسترجاع : * الاسترجاع الداخلي : فيترك الراوي شخصية ويعود لما قبلها ليكمل السرد. وهو بذلك يعالج الأحداث المتزامنة؛ فيدع مستوى القص الرئيس عند مستورة وبعد معالجته تاريخ إحدى الشخصيات واستكمال دورها عند خط السرد الرئيس يعود مجدداً لمستورة ليكمل السرد. • الاسترجاع الخارجي: السرد: لسد فراغات السرد ومعرفة تاريخ الشخصيات بما يفسر أفعالها وهو ما يقدّم به كل شخوص الرواية الرئيسة والثانوية، فيفسر مثلا عمل \”موفق\” وقصّه ساعات من يوميات العمال كخصومات، وسبب ذلك تعويض النقص بعد أن أخرج من خدمته العسكرية في حرب 67متأثرا بإصابات بالغة قد خلفت آلاما مزمنة تلازمت مع اضطربات عصبية كانت تنتابه أثناء الغارات. المونولوج الداخلي وهو ما يميزه الكاتب بعلامات التنصيص والخط المائل ويراوح فيه بين الضمائر المخاطب والغائب ، مثل المونولوج الذي تصدّر هذا المقال. يظهر الاستباق عبر إشارات رمزية تنذر بنذير شؤم يتعلق بموت صبري ابن مستورة، فالإشارة الأولى:\”الغربان\” التي ظهرت في سماء الشونة على غير العادة، وكذلك حادث \”لفرخ من صغار البط يرتطم إلى جوارها ينسال من رقبته ومن فروق زغبه الدم.. كان قد انفلت من مخالب غراب حلق فاصطدم بهيكل حديدي فارغ لمصبح داخلي.. جحظت عيناها فابتعدتا مع نظرة مفاجئة .. مع غيمة طفت من داخلها المنقبض تفلت في صدرها وتمتمت \” يا ساتر يا رب\”. تظهر تقنية الحلم جلية في آخر الرواية وهي انعكاس للعقل الباطن واستباق لما سيحدث في زمن لاحق عن لحظة السرد:\” تتراءى لك خالتك دامعة العينين يبدو لك متولي باسما ثم موليا يتجسد لك كامل يقف بعيدا متحفزا يقترب صبري مختلفة ملامحه تتمازج وجوه نعيم وسنية وفرج و .. تتراءى لك حمامتكِ تعود بيضاء وإن اعترضتها بقع سوداء \” وهذا فيه إشارات إيحائية تنذر بالموت. إبطاء السرد: عبر تقنية الوصف، فالوصف يوقف حركة المسار السردي وأحداثها، وله دور وظيفيّ في بلورة صورة الشخوص ذات الوجود الفسيفسائي على مدى الخط السردي، مما أعطى نوعاً من الألفة بينها وبين المتلقي كما يعكس ثقافة قاع الدوامة/ الشونة، فهذه أحياء شعبية ملتصقة بالأرض، عالم فقير مرهق يعيش حياته يوماً بيوم وقد ترك المكان عليهم بصماته الغائرة نفسيا وجسمانيا مثل زوج عسرانة الذي \”أقعده داء تآكل المفاصل بعد إصابته بداء الرئة من هبو القطن\”، فيلتهم السجائر بشراهة ويشرب أكواب الشاي المُرّ بكثرة\”. الشخصية الروائية: تمتاز شخصيات الرواية بأنّها فسيفسائية متلاحمة في شبكة محكمة تنسج حيوات صغيرة مهمشّة لا لتكون مركز ثقل الرواية وإنما لتخدم سطوة الزمكان على الإنسان وضآلته وتحكم الظروف الخارجية في حياته. يلحظ المتلقي أن أغلب شخوص الرواية باستثناء شخصية خالة مستورة وصبري يعملون في الشونة ما بين سائق وحارس وعامل ومحاسب وموظف ومدير وكلهم ينتسبون إليها لا العكس، لذا تتكرر العلامة اللغوية \”مؤقت\” فالمدير مؤقت والحارس مؤقت والموظف مؤقت أما الشونة فإنها سيدة المكان لا تتحرك، فهم يدورون في فُلكها مع تيارها الجاذب إلى القاع، فالعاملات مثل عسرانة يتخذن من صناديق البلاستيك لخام المحاصيل مهاداً لرضعهم \”المختومين بختم الشونة\”، وحتى من يتقاعد منهم مثل \”سليمان\” يظل يتردد عليها، وبعضهم كقطع الشطرنج مثل \”حلمي\” و\”أمل\” يتم نقلهما بسبب خلافات بين مدراء مؤقتين، فهي حلقات متداخلة من السلطات القهرية تتحكم في الشخوص وتمسك بزمامها الشونة. وهناك من تترك عليهم الشونة بصماتها النفسية مثل \”خليل\” وموفق \”مخلفات الحرب\” و\”وهبة\” الذي يفقد أعصابه في عمله لتنظيف أخطاء الموظفين. 1- مستورة وبطة : تتشابه شخصيتا مستورة وبطة حد التطابق، فكلتاهما عانتا من افتقاد الوالدين سواء بالموت أو الإهمال والترك، فكانت مستورة تتربى عند خالتها، وبطة تتربى عند عمتها مستورة. تتنازع الشخصيتان تياري الدوامة العظيمين في الرواية، وهما تيار الجذب إلى القاع وتيار الهروب من الدوامة، فكلتاهما تعمل في الشونة، ولكن لكل منهما نظرتها؛ فالشونة لمستورة الملاذ من الأعشاش أما بطة فعلى العكس، أرادت الخروج من المأوى والابتعاد عن الشونة وجوها المشحون. ومن ثم يمكن النظر إلى بطة أنها امتداد لمستورة ووجه العملة الآخر لها: \”أنا اللي اخدتها في حضني بعد ما رموها.. أنا التي آويتها وشفت فيها نفسي اللي ما كنتش عاوزاها تتكرر فيها\”، وأحياناً \”ترى فيها ما تمنته في نفسها\”؛ فالشخصيتان دائمتا التطلع إلى تحسين أوضاعهما، إلا أن هذا أوقعهما في الشراك، فـ \”كامل الديروطي\” الذي أحبته مستورة كانت ترى فيه رجلاً تحبه لكن بطة كانت تبحث عن المظاهر الخارجية: \”لهثت وراء خلف دون أن تعرف من أين أتى ولا أين يعيش فقد لسعتها شرارة سجائره المستوردة بأعقابها الحمراء وحزها الذهبي كلما راودتها نظراته المتجاسرة\”؛ فينتفي عنصر الحب وتتحول إلى مجرد علاقة نفعية مادية بحتة. ولا يلبث تيار الجذب إلى القاع أن ينتصر في نهاية الصراع وكأن التاريخ يعيد نفسه؛ ترجع بطة مذعورة لعمتها كما رجعت مستورة من قبل إلى خالتها تريد ستر العار والبحث عن زوج بديل لمداراة الفضيحة، ويترك الكاتب القارئ يستنتج ما سيحدث لبطة من خلال استقراء تاريخ مستورة وعلاقته الدائرية بحاضر ومستقبل بطة. 2- صبري: شخصية صبري هي الحاضرة الغائبة، فبالرغم من عدم ظهوره الحقيقي على خط الأحداث إلا أنه ظهر عبر استرجاعات والدته. على عكس شخوص الرواية لم يعمل صبري في الشونة ولم يدخل عالمها، وإنما كان يعيش في عالم خيالي. إنه الشخصية الممثلة لتيار ليس هارباً من دوامة الشونة وإنما هو تيار حرّ طليق يسعى للاستقلالية من عناصر الجذب الأرضية؛ فما بين تحليق روحه مع عصافير الزينة والطائرات الورقية، وأحلامه التي تسبح مع مراكبه الورقية الصغيرة في ماء البرك وتطلعه إلى الملاحة البحرية، وتحليقه الروحاني في مجالس الذكر والحضرة، فكان: \”يندس وسط الذّكيرة يرتل تراتيلهم يهتز معهم لا يبرحهم حتى تنتهي الحضرة ويعود فرحا تهتز نفسه طربا.. اعتياده للحضرة على صغر سنه ودون توجيه من أحد مع انسلاخه من صحبة أمه فيما بعد كان لغزا من ألغازه الغامضة على عقلها المتوزع بين دواماته\”. وبالرغم من رغبته في العمل في البحر إلى أنه أرسل إلى حرب تحرير الكويت، وهنا يلحظ المتلقي العلاقة بين علامتي (البحر/ الحرب) وجناسهما، وبالرغم من عدم الحضور الجلي لكليهما سوى عبر إشارات خاطفة إلا أنهما يمثلان جانباً من تياري الصراع الرئيس، البحر هو حلم الانفلات من القاع ودوامات اليابسة في أرض الشونة، فتولت الحرب عنصر هدم الحلم بإرسال صبري إلى الحرب وموته آخر الرواية في المشفى ، فالحرب نوع من دوامة أرضية تجذب الشباب للقتال مخلفة إياهم بين قتل وإصابات. المكان الروائي: تعدّ الإسكندرية هي الفضاء الروائي لرواية \”دوامة الغياب\”، ولكن يلحظ المتلقي أن الكاتب يعرض جانباً من الإسكندرية كأنها مدينة مغايرة، فيغيب البحر ورونق الإسكندرية وجانبها الحضاري الثقافي، ويحضر جانبها المظلم وهو قاع الإسكندرية الفقير حيث تكثر العشوائيات ويظهر المطحونون والمهمشون في مناطق القباري والمكس والدخيلة. وهو ما يتماسّ مع العنوان بقوة وفكرة القُمع والسحب نحو القاع. يتمركز المكان الروائي في منطقتين (الشونة – المأوى) المأوى :كعلامة لغوية لها معنى شمولي يخلو من التميّز، إذ ترتبط دلالتها بجميع الكائنات الحية، فتوحي بالبداءة التي يتشارك فيها الإنسان مع الحيوان، فمن يمتلك المأوى يتكور ويتستر ويرقد يتلذذ وهو غائب عن الأنظار. إن الشخوص الذين يقطنون المأوى نسخ مكربنة لأناس مكدودة، يفضلون العيش في مأوى ذي أرض موحلة على العيش في الأعشاش والعراء: \”سقف الحجرة والصالة تخترقه دائماً مياه الأمطار تعبث بأجسادهم المنهكة توقظها بقطراتها المتساقطة تحيل النوم المستغرق إلى فتات نوم\”. فكان بمثابة منطقة الخلاص لمستورة من السكنى في العشش لذا فهو على هشاشته وضيق حجمه يمثّل مكان الحماية والاستكانة والتملك فتربطه مستورة بــ \”مفتاح صغير في دوبارة مبرومة تخبئه في صدرها\”، وهو مكان خروج الأسرار وبوح بطة بفضيحتها وحيث ترقد مستورة تتأمل ذكرياتها. الشونة : تقف في مقابل المأوى، فتلك العلامة اللغوية أكثر تحديداً وتمييزاً من المأوى مما يعطي الشونة كياناً قوياً يصل في أغلب الأحيان إلى حد الأنسنة أو على الأقل وضعها في مركز جاذبية جبرية تمارسها على من يعمل في محيطها. كعلامة نصية يخدم شكلها المخروطي كالقمع فكرة الدوامة وحركتها الدائرية، وقد كانت اللغة التي يستخدمها الكاتب لوصفها معبّرة عن سلطتها القسرية مثل \”ربوع الشونة\”، \”أرض الشونة المترامية\”، \”مخلفات الشونة\” و\”بخاتم الشونة\”، فكل شيء ينسب إليها ويدور في مدارها وكلهم مؤقتين بينما هي ثابتة: \”وجه الشونة في كينونته لا يتغيّر لا يتجمل لا يحمل اي يوم جديد أي ملمح جديد ، يؤدي إلى إحساس جديد ولو كاذب\”. كما أنّ فضاء الشونة ليس بمكان صحي بل هو ملوّث مشحون بالصراعات والتجسس والمؤامرات وأحاديث العلاقات الخاصة، ويصاب من يعمل فيه بالأمراض:\” تراب أرض الشونة المتجافي آكل نعول الأحذية يخترقها؛ ليعشش بين ثنايا الأصابع يجثم حول حواف الأظافر يشققها يلهب مكامن التعب يضخ ألما ممتزجا.. يشارك مع الزمن في طبع آثاره على النفس المطواعة والرافضة في نفس الآن لممارساته\”. وحتى الهوام من كلاب لا تسلم من مرضها بعد اصطيادها الحمام الذي يقتات على الفاكهة المتعفنة. يطرح الكاتب جانب \”ظلام الشونة\” حيث يتعاطى وردان المخدرات ويلتقي خلف مع بطة لشهوة عابرة وحيث يتخبط خليل في هلاوسه داخل الظلمة. ولعل أهم مشهد يجسّد علاقة الشونة وجذبها الشخوص في قاعها هو مشهد المطر في آخر الرواية إذ تحولت من أرض خرسانية إلى بركة مياه، فهي رغم كونها بنياناً عتيداً إلا أنه ضعيف متفكك في داخله تنفذ إليه الأمطار وتغرق ما بداخل الشونة. صندوق مستورة الخشبي : يظن الإنسان أنه مالك الأشياء ولكن في الحقيقة هي ما تملكه وتأسر عقله ومشاعره، فهي أدوات حقيقية لحياتنا النفسية الخفية، فالمخفي داخل الأشياء تجسيد للمخفي داخل الإنسان. يتكون الصندوق من (صرّة قديمة بها جلبابها الأول – زجاجة عطر فارغة – صورتها القديمة بالضفائر – صورة صغيرة لصبري). يمثل الصندوق ذاكرة مستورة المغلقة لحفظ شذرات الماضي الذي تراه خاصا بها هي وابنها وحدهما، لذا لا يفارقها الصندوق في العمل وحتى في مشهد الأمطار الغزيرة آخر الرواية كانت تحتضنه مذعورة لأنه يمثّل عنصر حماية لها ، فلم توجعها حوافه الحادة التي انغرزت في لحم ذراعها وصدرها. إن تعلقها بالصندوق هو بحث عن الألفة مع المادة لا مع البشر إذ تنتفي حدود الصندوق وتخرج الألفة لتلغي فواصل المكان. خاتمة: \”دوامات الغياب\”، للروائي محمد عطية محمود، رواية تطرح شكلاً تجريبياً لرواية حديثة تعتمد على بناء العلاقات الدلالية العميقة بين علاماتها اللغوية والنصية، وقد كان العنوان مدروساً بإحكام بحيث أنّه يمسك بعناصر الخطاب السردي كلها من بنية حدث حلزونية وشخصيات فسيفسائية تدور مع دائرية الزمن السردي في ظل هيمنة رمزية لمكان أعطى بعداً جديداً لرواية تتبنى الإسكندرية فضاءً لها. بلاغة الحضور المضاد قراءة في رواية دوامات الغياب لمحمد عطية محمود د . هيثم الحاج علي كعادته ينطلق محمد عطية إلى فضائه السردي من عمق الأزمة الاجتماعية، موليًا اهتمامه للإنسان، راسمًا شخصياته هشة من الداخل، متحصنة بغلاف من القسوة ربما تحاول أن تحتمي به ضد أنواء تحيط بها وتكاد تعصف. ويبقى السؤال الأول عند قراءة هذه الرواية ـ دوامات الغياب ـ مطروحًا، لماذا يتحول بين الحين والآخر كاتب تحققت لديه ملامح المشروع من كتابة القصة القصيرة إلى كتابة الرواية ؟؟ وربما تكمن بعض إجابات هذا السؤال المقترحة في التأثر بمقولات \”زمن الرواية\”، والخضوع لفكرة أن المشروع الروائي يحقق التواجد بصورة أشد وضوحًا، وهذا السؤال سيكون مقدمة لسؤال آخر، هو: هل أثرت الخبرة القصصية على المشروع الروائي لكاتبنا وأقرانه أم لا ؟ وما هي ملامح هذا التأثير كما تتبدى في صورة آليات كتابية؟؟ تبدو رواية \”دوامات الغياب\” نموذجًا لكتابة روائية تستلهم الروح القصصية، وتستغل آلياتها، لكنها تنبئ عن كتابة تسعى إلى كشف الواقع المتستر خلف غلالات الحاضر، من أجل الوصول إلى عمق أزماته، عن طريق ملاحظة الغياب، قبل التأثر بالوجود. وتحاول الرواية في الوقت ذاته التمركز حول بعض الشخصيات التي تبدو في النص على درجة عالية من المركزية، تعويضًا لها عن هامشيتها داخل المجتمع، ومن هنا سيظهر اختيار المكان موحيًا إلى حد بعيد، فالشونة هي ذلك الحد الواقع بين مراحل التجهيز المتمثلة في كواليس الشركة، وبين منافذ البيع، فهي مرحلة بين المراحل، لا هي إنتاج كامل، ولا هي بيع كامل، وهذه الحلقة الخدمية ربما تسبغ سماتها على العاملين بها ليصبحوا واقعين في تلك المنطقة المظلمة، الهامشية، التي وإن أثرت أحيانًا في كم المنتجات فلا يمكن أن تكون مؤثرة بشكل كبير في عملية الإنتاج، وهو الأمر الذي يؤدي إلى إحساس كل هؤلاء العاملين بها بعدم الفاعلية، وبوجودهم دائمًا على هامش مجتمع لا يعتد بوجودهم أو غيابهم. من هنا سيصير المكان عنصرًا عضويًا داخل الرواية، وليس مجرد خلفية للأحداث، وستكون الشونة، ساحتها وعمالها، ومكاتبها الإدارية شخصية أساسية تسهم في دفع الأحداث وتشكيلها وتصاعدها، كما ستكون الفقرات الواصفة للمكان فقرات محورية تمثل أحيانا منعطفات مهمة للسرد، ونقاطًا فاصلة، خاصة إذا لاحظنا تركيز السارد على العناصر اللصيقة بالمكان، وهو الأمر الذي يمثل ملمحًا مهمًا في نصوص محمد عطية كلها، فليس المكان في قصصه القصيرة مجرد مسرح للأحداث، وكذلك في روايته التي تأثرت بحسه القصصي، فانزاحت عن مفهوم المكان في كثير من الروايات المعاصرة، التي يعد المكان فيها وعاءً خارجيًا للمجتمع الذي تناقشه الرواية. وإذا اعتبرنا للمكان شخصية تتمثل داخل الرواية، فإن الركن الأهم الذي تنبني عليه هذه الرواية هو الشخصيات، وهي الصورة التي تؤثر في الطريقة التي على أساسها يظهر الهيكل البنائي للرواية، فهي تقوم على ما يشبه حركة الكاميرا التي تنتقل بين الوجوه ثم تركز على أحدها ليكون ذلك مدخلاً لرؤية الماضي، أو قل هو الظاهر الذي تختفي وراءه تفاصيل تاريخ الشخصيات التي تظهر عبر التحليل والتفنيد والنفاذ إلى وعي هذه الشخصيات، مع التركيز على إحداها بوصفها بؤرة الرواية الأساسية، تلك التي تتمثل في شخصية [مستورة] عاملة الشونة التي استطاعت أن تتخذ مكانة تشبه مكانة رئيس العمال، والتي تتشابك عندها كل علاقات الشخصيات، وإن ظهرت أحيانًا في مظهر البطل الإيجابي، غير إنها ستبدو على العكس في بعض الأحيان حين يتم الدخول إلى وعيها، وهو الأمر الذي يتكرر معها على مدار فصول الرواية وفقراتها. غير إن الظهور المتكرر لمستورة لن يسهم إطلاقًا في التعمية على الشخصيات الأخرى، بل سيكون مدخلاً لملاحظة نقاط تماسها ـأو صراعها أحيانًاـ مع باقي الشخصيات، تلك التي يبرع السارد في استخدام تقنية الفلاش باك لعرض تاريخ الشخصية، في صورة يمكن تلخيصها على النحو التالي: حدث تمهيدي في الحاضر ظهور لاسم الشخصية وفعلها في الحاضر رجوع إلى تاريخ الشخصية يفسر تصرفها الحالي عودة إلى الحاضر لاستكمال خط الأحداث الخاص بالشخصية. وهو الأمر الذي يتكرر دائمًا عند ظهور أي شخصية جديدة على مسرح الأحداث، تحقيقًا للوظيفة الأساسية التي أقرها جينيت للاسترجاع الخارجي (أي الفلاش باك الذي يعود بالأحداث إلى ما قبل نقطة بداية القصة) في أنها \”هي التعريف بتاريخ الشخصيات الجديدة، وتفسير ما يغمض من أفعالها\”. ومن الضروري ملاحظة إن معظم هذه الشخصيات ـ إن لم تكن كلهاـ من أولئك المهمشين، حتى المدير أو من يتخذ مكانته ينتمون إلى تلك السمة أكثر من انتمائهم إلى مركز المجتمع، وهو ما يقترب بالرواية من دائرة التعبير القصصي خاصة إذا لاحظنا تواتر تركيز بؤرة السرد على داخل الشخصية، باعتباراتها وتاريخها الإنسانيين، وكذلك إذا لاحظنا إن كل واحدة من هذه الشخصيات تحمل في داخلها أزمتها الخاصة، بما لا يمثل رمزًا اجتماعيًا بالقدر الذي يحمل همًا إنسانيًا، وهو الأمر الذي سيجعلنا نشير إلى دقة السارد في التعامل مع مكونات الشخصيات بوصفها صورًا إنسانية متجاورة في المكان تحمل همومًا تاريخية ليصبح التجاور في المكان مدخلاً أساسياً لقراءة بنية الرواية، التي لا تحمل حكاية واحدة بقدر ما تشع حكايات شخصياتها التي تصب كالأشعة داخل نقطة تلاقي واحدة هي الشونة/ المكان. القهر إذن سمة أساسية في الشخصيات جميعها، شخصيات مقهورة تقهر شخصيات أخرى مقهورة مثلها بدرجة أو بأخرى . قهر على المستوى الجسدي يتمثل في محاولات الاغتصاب، أو حتى الخداع من أجل الجنس، وقهر على المستوى الوظيفي، حيث قمة الهرم الإداري في الشونة يمثل المقهور من أجل بقائه في منصبه، والمتحايل على قهره هذا، والمواجه له بقهر الأدنى منه، وهكذا في صورة تمثل التدرج الهرمي لطبقات المجتمع، ذلك الذي اصطنع لنفسه قممه الخاصة (هاني) صاحب السيارة، والتاجر الذي كان واحدًا من العاملين بالشونة ثم طرد منها. وتتبدى العلاقات بين الشخصيات على درجة عالية من التشابك والتعقد رغم إيضاحها عن طريق الفقرات المونولوجية الاسترجاعية، لكن وضوح العلاقات بهذه الصورة يؤدي إلى الإحساس بأهمية النظر إلى النماذج الإنسانية بوصفها قطعًا فنية متجاورة أكثر منها متضاربة أو متصارعة، لتبدو (مستورة) في مركز هذه الخطوط المتوازية بؤرة مشعة بالرموز داخل حيز الرواية، الأمر الذي يستوجب قراءة علاقة مستورة ببطة ـ مثلاً ـ على أساس من هذه الرؤية، فهي ابنتها وليست ابنتها، لأنها ابنة أخيها التي تبنتها، وهي البنت التي حاولت الهرب منها، بل نفذته مع محبوبها وتزوجته عرفيًا، وعادت إليها ـ مرة أخرى ـ بعد نفاذ نقودها، وهرب زوجها إلى ليبيا بحثًا عن عمل، لتبدأ مستورة في رحلة من المتناقضات، فهي ناقمة على بطة، ومنحازة إليها، تهاجمها علنًا وتدافع عنها وتدعو لها سرًا، غير إنها في خضم هذه المشاعر المتناقضة تلجأ إلى كرامات القباري لتنذر له نذورها إن انتصرت بطة في حربها ضد الغائب، في صورة من صور الاستناد إلى القوى الغيبية التي تمثل محورًا مهمًا في حياة تلك الطبقة. من هنا ستبدو علاقة العنوان ( دوامات الغياب ) ببنية الرواية التي لا تتصاعد خطيًا مع الأحداث، بل تدور حول الحدث الواحد من جهاته جميعها لتقف على مكوناته الصغرى فيما يشبه التصاعد الحلزوني، أو الدوامة. وليكون الغياب سمة أساسية في الشخصيات التي تؤدي دورًا مؤثرًا في الفضاء الحدثي للرواية، سواءً أكان غيابًا بلا عودة، مثل صبري ابن مستورة الذي غيبته حرب تحرير الكويت، على مدار الرواية فلا يظهر بشخصه متجسدًا في الأحداث بل يبقى مجرد ذكرى لا يتم تجسيدها إلا مع السطور الأخيرة في الرواية التي توحي بأنه قد قتل في الحرب وتم إرسال جثته إلى المستشفى، لتنتهي الأحداث بمستورة في طريقها لتسلمه، أو مثل غياب حلمي الموظف المؤقت الذي ترك العمل فجأة بعد مشادة مع المدير، لأنه فقد اتزانه وتعاطي المخدرات أثناء العمل، نظرًا للضغوط الواقعة عليه حين تم تخطيه في التعيين رغم أحقيته، وحين رأى أمل تركب السيارة مع هاني فظن بها السوء بعد أن كان يهيم بها حبًا في صمت، دون أن يدري أنها قد ذهبت معه إلى المستشفى بعد أن نقل إليها خبر تعرض أبيها لأزمة قلبية. الغياب بلا عودة إذن سمة للشخصيات إيجابية الوجود، فصبري وحلمي كلاهما يمثلان لمستورة ذلك النمط الممثل لأمل ما في الغد، وهو الأمر الذي يتضح في علاقتها بحلمي الذي كتب لها خطاباتها لابنها دون أن يهزأ بمشاعر الأمومة داخلها، بل بدأ السؤال عن أخباره، ومن ناحية أخرى سيبدو الغياب الذي تعقبه العودة قرينًا بشخصيات تتم بالعكس، حيث عامل الشونة الذي يتم طرده، ويعود بعد سنوات تاجرًا كبيرًا لم ينس حلمه القديم بامتلاك مستورة، أو حلمها هي به، ليمثل ضغطًا جديدًا عليها. تبقى الإشارة إلى أن لغة الرواية قد تراوحت بين النمط الشاف الذي يسرد الأحداث في صورة ناقلة للمعلومة السردية بوضوح، وبين نمط آخر يعلو فوق النقل بالإنشاء المجازي المقترب من لغة الشعر، وهي الفقرات التي في أغلب أحيانها تصف المكان، أو الحالة الناتجة عنه، بما يمثل ذلك الحضور الطاغي، بل هيمنة المكان /الِشونة على الحالة الروائية، وتجلى الإحساس القصصي متغلبًا على المشروع الروائي. وربما تبدو هذه السمات جميعها من خصوصية اللغة وعضوية المكان، واستخدام البنية الحلزونية والاعتماد على وجهات نظر الشخصيات، كلها سمات تنبئ عن جيل تأثر مشروعه الروائي بكتابته القصصية . د . هيثم الحاج علي

معلومات أخرى (جوائز، ندوات، استضافات.. إلخ):

تحت الطبع: وهج الأسئلة الحارقة، قراءات في القصة العربية القصيرة مختارات قصصية \”الضوء والانكسار\” أهم الجوائز * جائزة أفضل بحث (جماليات السرد، والتلقي) في المؤتمرات الإقليمية في مصر 2014 من الهيئة العامة لقصور الثقافة * جائزة اتحاد كتاب مصر في الرواية (جائزة يوسف أبورية) 2013 * جائزة المسابقة المركزية لهيئة قصور الثقافة المصرية في النقد 2008 *جائزة إحسان عبد القدوس في الرواية 2011 * جائزة مكتبة الإسكندرية 2012 في النقد عن أعمال الكاتب المجدد محمد حافظ رجب. * جائزة المؤتمر الرابع للأستاذ الدكتور محمد زكي العشماوي \”دورة الرواية\” 2009 * جائزة جمعية الأدباء في القصة القصيرة 2007 * جائزة النقد بفرع ثقافة الإسكندرية 2006 * جائزة صندوق التنمية الثقافية للقصة القصيرة ـ مركز الإسكندرية للإبداع ـ 2004 ترجمت نماذج من النصوص القصصية إلى: الفرنسية والإيطالية والإنجليزية.. النشر في الدوريات الثقافية : جرائد مصرية: أخبار الأدب ـ القاهرة ـ مسرحنا ـ الأهرام المسائي ـ المساء ـ الوفد ـ المسائية ـ الأهالي ـ الجمهورية جرائد عربية: * الراية (قطر) * العرب العالمية ـ القدس العربي (لندن) * الزمان العراقية (لندن) * المنارة ـ المدار ـ البناء (العراق) * الجماهيرية ـ قورينا ـ ملحق الشمس الثقافي ـ المجلس الثقافي ـ الكلمة (ليبيا) * الثورة ـ 14 أكتوبر (اليمن) * الرأي، الدستور (الأردن) * المدينة (السعودية) *الأسبوع الأدبي (اتحاد كتاب العرب ـ سوريا) * جزائر برس (الجزائر) * سلطنة عمان، ملحق شرفات مجلات مصرية : دورية نجيب محفوظ (المجلس الأعلى للثقافة) ـ الثقافة الجديدة ـ إبداع ـ الرواية ـ المجلة ـ الهلال ـ حواء ـ الشعر ـ الكلمة المعاصرة ـ أدب ونقد ـ الخان الثقافية (صندوق التنمية الثقافية)، قطر الندى مجلات ودوريات عربية : عشتروت ـ كتابات معاصرة (لبنان) البيان ـ الكويت ـ جريدة الفنون (الكويت) الجوبة الثقافية ـ حسمى ـ المجلة العربية ـ سيسرا ـ الراوي ـ مجاز ـ بروق ـ الفيصل (السعودية) الحياة الثقافية (تونس) مشارف مقدسية (فلسطين) الرافد ـ الإمارات الثقافية ـ دبي الثقافية ـ بيت السرد ـ شئون أدبية (الإمارات) أقلام جديدة ـ عمّان الثقافية ـ أفكار ـ تايكي (الأردن) الثقافة العربية ـ شؤون ثقافية ـ الفصول الأربعة ـ رؤى (ليبيا) غيمان (اليمن) أجراس ـ أوراق ثقافية (المغرب) الثقافة الجديدة ـ تراسيم ـ أقواس (العراق) ـشرفات الشام (سوريا) نزوى (سلطنة عمان) البحرين الثقافية (البحرين) * المشاركات البحثية احتفالية مئوية نجيب محفوظ \”من المحلية إلى العالمية\”، بقصر التذوق بالإسكندرية ـ نوفمبر 2011 مؤتمر اليوم الأدبي الواحد بالإسكندرية بمركز الإسكندرية للإبداع ـ مايو 2011 مؤتمرات اليوم الواحد الأدبي لاتحاد كتاب مصر بالإسكندرية، 2011، 2012، 2014 مؤتمر \”محمد حافظ رجب .. رائد التجديد\” بمكتبة الإسكندرية 2012 مؤتمر \”الإسكندرية للسرديات\” دورة القصة القصيرة جدا ـ مكتبة الإسكندرية ديسمبر 2013 مؤتمر إقليم وغرب ووسط الدلتا الثقافي 2014 (الدورة 15) ببحث عن \”جماليات السرد، والتلقي\” مؤتمر \”الرواية بين الإسكندرية والمغرب\” بمكتبة الإسكندرية ـ 2014 مؤتمر أدباء مصر 2014 \”الأدب وثقافة الاختلاف\” بمحافظة أسيوط، ببحث \”بين المتن والهامش في الإبداع السردي ـ رواية زهر الليمون لعلاء الديب نموذجا ملتقى الرواية العربية بالقاهرة مارس 2015 المجلس الأعلى للثقافة ملتقى الثقافات الإفريقية بالقاهرة يونيو 2015 المجلس الأعلى للثقافة